إنّ ديننا الإسلامي القيّم يُطالبنا في أن نلبِّي احتياجاتنا واحتياجات أمّتنا في حقول المعرفة وأنشطة الحياة كلّها.

ولن يتحقق ذلك بين عشية وضُحاها، فعلى الرغم من الجهود التي بذلها النّبي(ص) لبناء أُمته خلال ثلاثة وعشرين عاماً، إلّا أنّ مستقبل الأُمّة بقيَ بحاجة إلى مَن يرعاه ويتهمّ بشؤونه ويحافظ على استقامته، ويصل به إلى أهدافه المرجوّة.

إنّ الإسلام يعتبر ذلك واجباً عينياً يتعيّن على كلّ فرد في الأمّة العمل على تلبيته وتحقيقه من أجل التنمية التي تملأ الفراغ وتسدّ الحاجات الأساسية، حتّى لا تضطر الأمّة إلى أن تبذل من عزّتها وكرامتها في التبعية للآخرين.

فإذا قام أبناؤها بما يلبي تلك الحاجات سقط الواجب عنهم، وإلّا فهم مقصّرون، الأمر الذي يقتضي سعياً دؤوباً من أبناء الأمّة لا سيّما شبابها الغيارى، ليس فقط في بناء حاضر مزدهر بل بإقامة قواعد وأركان وأعمدة لمستقبل أكثر ازدهاراً:

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). (المُلْك/ 2)

إنّ الأمم الحيّة هي التي لا تنام على أمجاد ماضيها القديم، ولا تقتنع بانجازات حاضرها الراهن، وإنّما تخطِّط لأن يكون مستقبلها أكثر رقيّاً وازدهاراً. والأمم بأبنائها وتحديداً الشباب منهم.

إنّنا إذا أردنا أن نتلمّس اهتمامات الإسلام بالمستقبل فيمكن التقاط العناوين المستقبلية التالية:

1- إعتبار كلّ يوم جديد:

في المأثور من أدعيتنا: "وهذا يومٌ حادثٌ جديدٌ، وهو علينا شاهدٌ عتيدٌ، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ".

إنّك بتدشينك يوماً جديداً إنّما تفتح في كتاب وجودك صفحة جديدة، يمكن أن تصحِّح فيها أخطاء الصفحات الماضية، ويمكن أن تضيف فيها إلى رصيد ما مضى رصيداً جديداً.. وبالتالي فاليوم الجديد.. فرصة جديدة.. أمل جديد.. وأفق جديد.

2- التفكير بالمصير (الحياة الأخرى):

في الحديث: "إعمل لدُنياكَ كأنّكَ تعيشُ أبداً، وأعمل لآخرتكَ كأنّك تموتُ غداً".

هنا موازنة واعتدال: تفكير بـ(الحاضر) دنياك التي تعيشها فعلاً، وتفكير بـ(الغد) حياتك الخالدة الأبدية، ومن الخطأ تغليب أحدهما على الآخر. فالدّنيا ليست للمراوحة والجمود والانتظار.. هي (مزرعة الآخرة)، وهذا المعنى يستبطن الاهتمام بالمستقبل، فما دُمتَ تزرع يعني أنّك تنتظر الحصاد في الموسم، والحصاد مستقبل.. والمواسم مستقبل..

قال رجل لـ(يحيى بن معاذ الرّازي): إنّك تحبُّ الدّنيا!

قال يحيى: أخبرني عن الآخرة، أبالطاعة أم بالمعصية؟!

قال: بالطاعة.

قال يحيى: أخبرني عن الطّاعة، أبالحياة تُنال أم بالممات؟!

قال: بالحياة.

قال: أخبرني عن القوت، أمنَ الدّنيا هو أم من الآخرة؟!

قال: لا، بل من الدّنيا.

قال: كيف لا أحبُّ دنيا قُدِّرَ لي فيها (قوتٌ) أكتسب به (حياة)، وأدركُ بها (طاعة) وأنالُ بها (الآخرة)؟!

وفي الحديث: "بادِرُوا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا (اشتروا) ما يبقى لكم بما يزول عنكم".

3- مواصلة الأجيال وتتابعها:

لو كان الإسلام مهتّماً بالحاضر وحده لما دعانا إلى الاهتمام بأولادنا وببناء الحياة من أجل أن ينتفع بها غيرنا، كما انتفعنا بما بناهُ مَن كان قبلنا، ولا دعانا إلى نقل التجارب والاهتمام (بالوصيّة).

إنّ الوصايا دليل اهتمام بالمستقبل.. تأمّل في هذه الوصيّة المستقبلية:

(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). (البقرة/ 132)

أي أن يكون كلّ جيل لاحق حاملاً للإسلام كما حمله أسلافه الصالحون.

وانظر إلى هذا الدعاء المستقبلي الذي دعا به شيخ الأنبياء إبراهيم(ع):

(ربّنا واجعلنا مسلمينِ لك) (حاضراً ومستقبلاً)..

(ومن ذُرِّيّاتنا أُمّةً مسلمةً لك) (تواصل الأجيال)..

(وأرِنا مناسكنا) (التي نعبدك من خلالها الآن وفيما يأتي)..

(وَتُبْ علينا) (في العاجل والآجل يوم نقف بين يديك)..

إنّكَ أنتَ التوّاب الرّحيم * ربّنا وابعث فيهم رسُولاً منهم يتلو عليهم آياتكَ ويُعلِّمهم الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزكِّيهم إنّكَ أنتَ العزيز الحكيم).. (إبعث فيهم رسولاً مستقبليّاً هو النبي محمّد(ص) ليواصل المهمّة).

إنّ أيّة وصيّة يتركها أب لأبنائه تعني الاعتناء بالمستقبل، وإلّا كان يمكن أن يترك كلّ شيء وراء ظهره ريشةً في مهبّ الرِّيح.

4- التدارك والاستدراك والإصلاح وتعويض ما فات:

إنّ مفهوم (القضاء) في العبادات فيه نظرة مستقبلية، لأنّه تدارك لما فاتَ في الماضي، وكلّ (استغفار) و(توبة) و(ندم) و(كفّارة)، هو استدراك لما انقضى، وكلّ مراجعة للنّفس ومحاسبة لها وتراجع عن أخطائها السالفة، هو حركة باتجاه المستقبل.

5- الإدِّخار والإقتصاد:

مُخطئ مَن يتصوّر أنّ الدّين لا يُشجِّع على الإدِّخار والاقتصاد تحسّباً لطوارئ المستقبل، فكما ينبغي أن لا تتعلّق بالدّنيا فتتصوّر أنّ الغد من عمرك، كذلك ينبغي أن تدخله في حسابك (لتتوازن حياتك وتعتدل).

انظر كيف يُعلِّمنا القرآن الاهتمام بمستقبلنا الاقتصادي:

حينما رأى ملك مصر منامه سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبعٌ عجاف وسبع سنبلات خُضر وأخر يابسات، أحال تفسير أو تأويل منامه إلى يوسف(ع)، العالم بتأويل الأحلام، فماذا قال: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ). (يوسف/ 47-48)

إنّه درس في الادِّخار حتّى لا يتعرّض الناس إلى المجاعة، ولو لا الاهتمام بالمستقبل والتحسّب لما يخبِّؤه الغد لما قال يوسف: (فما حَصَدْتُم فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ).

6- ثقافة الدّعاء تُعلِّمنا العناية بالمستقبل:

في الدعاء القرآني: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا). (الكهف/ 23-24)

لا يعني هذا صرفاً عن الاهتمام بالمستقبل، بل نهياً عن الركون إلى طول الأمل ونسيان الموت والغفلة عن ذكر الله الذي بيده (اليوم والغد والأمس).

وفي الدّعاء: "اللّهمّ اجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خير، والوفاة راحةً لي من كلِّ شرّ". وفيه: "اللّهمّ اجعل غَدي وما بعده أفضلَ من ساعتي ويومي". وفيه: "اللّهمّ اجعل خير أعمالي خواتيمها، وخير أيّامي يوم ألقاك". وما إلى ذلك.

7- التحذير من التراجعات المستقبلية:

كان النّبي(ص) قد لفتّ نظر المسلمين أنّهم سيتراجعون في المستقبل، وحّرهم من الانقلاب على الأعقاب، وكلّ حديث فيه (سيأتي زمان على أمّتي)، هو قراءة مستقبلية (نبوءة).. وهو تحذير من النكوص والانكفاء والتراجع، ممّا يعني أنّ الإسلام يريد (تطوير) المستقبل والارتقاء به، ففي الحديث:

"المغبون (الخاسر) مَنْ تساوى بوماه (حاضره وغده)، والمغبوط (المحظوظ) مَن كانَ غدهُ أفضل من يومه، والملعون مَن كانَ غدهُ أسوأ من يومه، ومَنْ لم يكن (إلى الزيادة) فهو إلى نقصان".

أرأيتَ العملية التصاعدية التي يُطالب بها الإسلام؟!

8- العمل لما بعد الموت:

إنّ الحث على القيام بأعمال خيريّة، فيها برّ وفيها صلاح وفيها نفع، هو واحد من اهتمامات الإسلام بالمستقبل أيضاً، فعندما تقرأ الحديث: "يموتُ الرّجل وينقطع إلّا من ثلاثة: علمٌ يُنتفَعُ به، أو صدقةٌ جاريةٌ، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له"، فإنّك تعرف قيمة الاهتمام الإسلامي بالمستقبل، وترجمة ذلك: فكّر قبل أن تُغادر الحياة كيف تبقى فيها حتّى وأنتَ خارجها، إمّا بعلم يستفيد منه المتعلِّمون بعدك (والمراد الكتب النافعة).. أو الصّدقة الجارية بكلّ أنواعها، كالأوقاف والنذور، والولد الذي تتعب اليوم في تربيته سيُحافظ على مستقبلين: مستقبله هو كونه تأدّب واستقام، ومستقبلك أنتَ لأنّه ذخيرتك إلى الآخرة.

من ذلك كلّه نستنتج أنّ دواعي الإسلام للاهتمام بالمستقبل هي:

1- تعويض خسائر الماضي والحاضر.

2- تحقيق ما لم نوفّق لإنجازه في الماضي والحاضر.

3- المواصلة والاستمرار واستكمال المشوار.. زخم الأمل.

4- الإنماء والتطوير والإستنزادة والتوسعة.

5- المستقبل سيكون – عمّا قريب – حاضراً، فهو من مسؤوليّاتنا أيضاً، فمَنْ لم يعتبر المستقبل من حاضره فهو ممّن لا يريد أن يغادر ماضيه.

6- الوصول إلى الأهداف الكبرى وتحقيق الدرجات العُليا في الحظوة عند الله والقُرب منه واكتساب المقام المحمود عنده.

الاهتمام بالمستقبل إذاً هو مسؤوليّة تضامنية مشتركة، فهو من جهة مسؤولية الفرد نفسه، وهو من جهة مسؤوليّة الأسرة باعتبارها الحاضنة لأفرادها، وهو مسؤولية المدرسة باعتبارها المؤهلة للجيل الجديد، وكذلك هو مسؤوليّة المجتمع باعتباره كلّاً متكاملاً متكافلاً، كما هو مسؤوليّة الدولة باعتبارها الراعي الكبير والمسؤول الأوّل عن شؤون الرعية والآخذ بيدها نحو الآفاق العالية.