«لم أتصور يوماً مطلقاً أنني سأعيش بما فيه الكفاية حتى اليوم الذي أكتب فيه الجملة التالية: إن عملية الإصلاح الأضخم على مستوى منطقة الشرق الأوسط تجري حالياً في المملكة العربية السعودية. نعم، أنتم تقرأون ذلك بشكلٍ صحيح. وعلى الرغم من أنني جئت إلى هنا (السعودية) في بدايات فصل الشتاء في المملكة، فإنني وجدت الدولة تخوض ربيعها العربي، على الطريقة السعودية».
بهذه الكلمات استهل الكاتب الأميركي توماس فريدمان حواراً مطولاً نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، أمس، مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي أجاب عن أسئلة يطرحها كثيرون في السعودية والعالم العربي عن رؤية المملكة للإصلاح ومحاربة الفساد وسياساتها الخارجية.
وعن «الربيع السعودي»، قال فريدمان: إنه «خلافاً للربيع العربي في بلدان أخرى – والتي بدأت جميعها من القاعدة الشعبية فصعوداً إلى الأعلى لكنها أخفقت بشكلٍ بائس، باستثناء الذي حدث في تونس – فإن هذا الربيع يقوده من القمة فنزولاً إلى القاعدة ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان ذو الـ 32 عاماً. وفي حال نجاح ذلك الربيع، فإنه لن يؤدي إلى تغيير ملامح شخصية السعودية فحسب، بل سيغير أيضاً فحوى ومغزى الإسلام في أرجاء المعمورة».
واستهل الكاتب مقابلته بسؤال ولي العهد عما يجري في فندق «ريتز كارلتون» حيث تفيد تقارير عن احتجاز عشرات من كبار المسؤولين والأمراء المتورطين بالفساد، فأجاب محمد بن سلمان أنه من «المضحك» التلميح إلى أن الحملة التي يشنّها ضد الفساد تندرج في إطار مسعى لإحكام قبضته على السلطة. ولفت في هذا الإطار إلى أن عدداً كبيراً من الشخصيات المرموقة الموجودة حالياً في «الريتز» سبق أن أعلن على الملأ ولاءه له وللإصلاحات التي يقوم بها، وأن «غالبية الأسرة المالكة» تدعمه. ولخص ما يجري بالقول: «عانت بلادنا كثيراً بسبب الفساد منذ الثمانينات حتى يومنا هذا. وفقاً لخبرائنا، كان الفساد يبتلع نحو عشرة في المئة من مجموع الإنفاق الحكومي سنوياً، وذلك من أعلى المستويات إلى أدناها. على مر السنين، شنّت الحكومة أكثر من حرب على الفساد، وقد باءت كلها بالفشل. لماذا؟ لأنها بدأت جميعها من الأسفل نحو الأعلى».
وأشار ولي العهد إلى أنه عندما تسلم والده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز سدة الحكم في العام 2015، تعهد بوضع حد للفساد، مضيفاً: «رأى والدي أنه يتعذر علينا، مع هذا المستوى من الفساد، البقاء في مجموعة العشرين وتحقيق النمو والتطور. في مطلع العام 2015، من أولى الأوامر التي أصدرها لفريق عمله جمع كل المعلومات عن الفساد – في أعلى الهرم. عمل الفريق على امتداد عامَين جمع خلالها المعلومات الأكثر دقة، ثم وضع قائمة بنحو مئتَي اسم».
وأوضح أنه عندما أصبحت كل البيانات جاهزة، تحرّك المدعي العام سعود المجيب، شارحاً أنه عُرِض خياران على كل واحد من الأمراء أو أصحاب الثروات المشتبه بهم بعد توقيفهم: «أطلعناهم على كل الملفات التي بحوزتنا، وما إن رأوها حتى وافق نحو 95 في المئة منهم على التوصل إلى تسوية»، والمقصود بذلك التوقيع على تسليم أموال نقدية أو حصص في شركاتهم إلى خزينة الدولة السعودية.
وأضاف: «تمكّن نحو واحد في المئة من إثبات نظافة كفّهم، وجرى إسقاط القضايا بحقهم على الفور. ويقول نحو أربعة في المئة إنهم ليسوا فاسدين ويريدون التوجّه إلى المحكمة مع وكلائهم القانونيين. بموجب القانون السعودي، يتمتع المدعي العام بالاستقلالية. لا يمكننا التدخل في عمله – يستطيع الملك إقالته، لكنه هو من يقود العملية... ولدينا خبراء يحرصون على عدم تعرّض أي شركة للإفلاس نتيجة هذه الإجراءات»، وذلك لتفادي التسبب في نشوء بطالة.
ورداً على سؤال عن المبالغ التي ستتم استعادتها، أجاب أن «المدعي العام يقول إنها قد تصل إلى نحو مئة مليار دولار في إطار التسويات».
ولفت إلى أنه يستحيل استئصال جميع أشكال الفساد من أعلى الهرم إلى أسفله، قائلاً: «لذلك يجب توجيه إشارة، والإشارة التي يتم توجيهها الآن هي الآتية (لن تُفلتوا). ونحن بدأنا نرى تأثير تلك الرسالة فعلياً»، مثل أن هناك أشخاصاً يكتبون عبر مواقع التواصل الاجتماعي: «لقد اتصلتُ بواسطتي ولكنه لا يرد على اتصالاتي».
وأوضح أن رجال الأعمال السعوديين الذين دفعوا رشى لإنجاز معاملات والحصول على خدمات عن طريق الموظفين البيروقراطيين، لن يخضعوا للملاحقة القانونية، مشيراً إلى أن الملاحقة تطول «أولئك الذين سحبوا الأموال من الحكومة»، بواسطة تضخيم الفواتير أو الحصول على عمولات.
وتطرق الكاتب فريدمان إلى ما رآه من ردود فعل في المملكة على الحملة ضد الفساد قائلاً: «لقد أعرب جميع السعوديٍين الذين تحدثت معهم هنا (في السعودية) على امتداد ثلاثة أيام، عن دعمهم الشديد لحملة مكافحة الفساد. من الواضح أن الأكثرية الصامتة في السعودية ضاقت ذرعاً بالظلم الناجم عن قيام عدد كبير من الأمراء وأصحاب الثروات بنهب مقدّرات البلاد».
ولفت إلى أنه في حين كان الأجانب، مثله، يستفسرون عن الإطار القانوني لهذه العملية، كان لسان حال السعوديين الذين تحدث معهم: «اقلبوهم جميعهم رأساً على عقب، وقوموا بهزّهم لإخراج الأموال من جيوبهم، ولا تتوقفوا عن هزّهم حتى إخراج جميع المبالغ».
وأشار الكاتب إلى مبادرة الأمير محمد بن سلمان إلى إعادة الإسلام في السعودية إلى خطه الأكثر انفتاحاً وحداثة والذي انحرف عنه العام 1979، مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حسب ما قال ولي العهد أمام مؤتمر عالمي للاستثمار عُقِد في المملكة منذ فترة وجيزة.
وفي إشارة إلى الارتياح السائد في المملكة لجهة مواجهة التشدد والتمسك بالوسطية والاعتدال، نقل فريدمان عن سيدة سعودية في الـ28 من العمر، تلقّت تحصيلها العلمي في الولايات المتحدة، قولها إن محمد بن سلمان «يستخدم لغة مختلفة (عن المسؤولين الآخرين). يقول: سوف نقضي على التطرف. لا يعمد إلى تلطيف الكلام. وهذا يطمئنني بأن التغيير حقيقي».
وأشار الكاتب إلى أن ولي العهد شدد على ضرورة توضيح ما يجري، قائلاً «طلب مني محمد بن سلمان... لا تكتب أننا نعيد تفسير الإسلام – نحن نعيد الإسلام إلى أصوله – والأدوات الأبرز التي نستخدمها هي ممارسات النبي (صلى الله عليه وسلم) والحياة اليومية في السعودية قبل العام 1979».
ثم أخرج أحد وزرائه هاتفه الخلوي وأطلع فريدمان على صور ومقاطع فيديو عبر موقع «يوتيوب» عن السعودية في الخمسينات، وقد ظهرت فيها سيدات مكشوفات الرأس، يرتدين تنانير ويمشين مع رجال في أماكن عامة، وكذلك صور ومقاطع فيديو عن حفلات موسيقية وعروض سينمائية. كانت المملكة مكاناً تقليدياً ومحافظاً، إنما لم تكن التسلية محظورة، كما حدث بعد العام 1979.
في السياسة الخارجية، لم يرد محمد بن سلمان، حسب فريدمان، مناقشة التطورات التي أحاطت بوصول رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى السعودية وإعلانه استقالته، ثم عودته إلى بيروت ورجوعه عن الاستقالة. واكتفى بالتشديد على أن الموضوع الأساسي في المسألة بكاملها أن الحريري لن يستمر في تأمين غطاء سياسي لحكومة لبنانية تخضع في شكل أساسي لسيطرة ميليشيا «حزب الله» التي هي تحت سيطرة طهران بصورة أساسية.
وشدد على أن الحرب في اليمن، التي تُعد كابوساً إنسانياً، تميل لصالح الحكومة الشرعية، بدعم من التحالف العربي بقيادة السعودية، بحيث إنها باتت تسيطر على 85 في المئة من البلاد، لكن نظراً إلى أن المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، الذين يسيطرون على الجزء المتبقّي، أطلقوا صاروخاً باتجاه مطار الرياض، لا يمكن القبول بأقل من السيطرة على مئة في المئة من أراضي البلاد، لأنه في غياب ذلك تبقى الإشكالية قائمة.
ونقل الكاتب عن محمد بن سلمان ان السعوديين وحلفاءهم العرب يعمدون شيئاً فشيئاً، بدعم من إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي أثنى عليه واصفاً إياه بأنه «الشخص المناسب في الوقت المناسب»، إلى بناء تحالف للوقوف في وجه إيران.
وإذ لفت إلى سخط شديد لدى المملكة من التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية، نقل فريدمان عن ولي العهد قوله إن «المرشد الأعلى (في إيران علي خامنئي) هو هتلر الجديد في الشرق الأوسط... لكننا تعلّمنا من أوروبا أن التهدئة لا تنفع. لا نريد أن يكرر هتلر الإيراني الجديد في الشرق الأوسط ما حدث سابقاً في أوروبا».
وختم فريدمان مقابلته بسؤال وجهه لولي العهد قائلاً «قلت للأمير محمد بن سلمان إن عادات العمل الخاصة به تُذكرني بنص في سياق مسرحية (هاملتون)، عندما تسأل الجوقة: لماذا يعمل دائماً وكأن الوقت يداهمه»؟.
فأجاب ولي العهد: «لأنني أخشى أنه عندما يحين موعد رحيلي عن هذه الدنيا، قد أموت من دون أن أكون قد أنجزت ما يجول في بالي. الحياة قصيرة جداً، ويمكن أن تحدث أمور كثيرة، وأنا حريص على أن أشهد عليها بأم عينَيّ – ولهذا أنا على عجلة من أمري».
استسلمتُ أمام فتوّة محمد بن سلمان بعد نحو أربع ساعات
قال الكاتب الأميركي توماس فريدمان إن اللقاء مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان جرى ليلاً في قصر عائلته المزخرف ذي الجدران المصنوعة من لبن الطين في العوجة شمال الرياض.
وأوضح أن محمد بن سلمان تكلم باللغة الإنكليزية، في حين كان شقيقه الأمير خالد، السفير السعودي الجديد لدى الولايات المتحدة، والعديد من كبار الوزراء يتشاركون أطباقاً مختلفة من الطعام.
وأضاف «بعد نحو أربع ساعات أمضيناها معاً، استسلمت عند الساعة 1:15 من بعد منتصف الليل أمام فتوّة محمد بن سلمان، مشيراً إلى أن عمري هو ضعف عمره بالتمام والكمال. لكن منذ فترة طويلة جداً، لم يجعلني أي قائد عربي أشعر بأنني منهك القوى من خلال وابل الأفكار الجديدة الذي أمطرني به عن عمله على إحداث تحوّل في بلاده»