«داعش» تنظيم ولد من رحم مجهول، صال وجال في منطقة الشرق الأوسط وتحديدا سوريا والعراق، فتح الحدود بين البلدين بطريقة مثيرة للريبة، تزامن معها صمت القوى العظمى والاكتفاء بمشاهدة الحدث على الهواء.. التنظيم المتطرف حقق انتصارات توازى قدرة الجيوش العريقة، وانتشرت ولاياته وفروعه تحت مسمى «الدولة الإسلامية».. امتلك أسلحة وعتادا وخططا تؤكد- بما لا يدع مجالا للشك- بأنه صنيعة أجهزة استخبارات دولية عتيدة في صنع الفتن والمؤامرات.

لم يكن ميلاد زعيمه أبو بكر البغدادي، هو الآخر بعيدا عن الصناعة، بحسب ما يتوفر عنه من معلومات، فقد كان أحد نزلاء سجن «بوكا» خلال الاحتلال الأمريكى للعراق، ظهر كشبح لمرة واحدة في مسجد الموصل الكبير، وانهالت عقب ذلك خطبه الصوتية مجهولة المصدر، امتلك هو وعناصره أحدث التقنيات التكنولوجية، وخلق شبكة عنكبوتية دولية سهلت نقل الإرهاب عبر الحدود، وخلقت ما سُمى بـ”الولايات”.

اليوم.. ومع استبدال الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الديمقراطى باراك أوباما، الذي غض الطرف عن التنظيم وسمح بتوغله وتغوله، يبدو أن إدارة الجمهورى دونالد ترامب الحالية، فضلت تطهير دول غرب آسيا من التنظيم للحفاظ على مصالحها النفطية، ودون مقدمات مثلما ولد التنظيم من علاقة سفاح، تكتب نهايته بالوأد في رمال الجزيرة وبلاد الشام، وبدأت عناصره في رحلة الفرار من الموصل العراقية والرقة السورية، للعودة إلى بلدانهم أو العثور على فرصة للإقامة في معسكر إرهابى مفتوح في بلد جديد.

مواجهة “العائدون من داعش” الآن.. ملف يحمل بين صفحاته خطورة تفوق محاربة التنظيم في أرضه الموعد سابقا بسوريا والعراق، فهذه العناصر بحسب جميع الدراسات الأمنية والسلوكية فقدوا الأمل في الحياة بعد تبدد حلم الخلافة الإسلامية، ويدركون جيدا أن مصيرهم الموت أو السجن، ما يجعل عقيدة العمليات الانتحارية الباب إلى الجنة الموعودة الوطن البديل.

تصدير القنابل البشرية
تأكيد الرئيس الأمريكى وإدارته على عدم السماح بعودة عناصر «داعش» من الخارج بعد هزيمة التنظيم في الشرق الأوسط، يسترعى رفع حالة التأهب القصوى من قبل الأجهزة الأمنية، في الدول المرجح تسهيل نقل الدواعش إليها سواء في الأوروبية وبعضها بالفعل بدأ الاستعداد، أو في الشرق الأوسط وهنا يبرز اسم ليبيا التي تعد الأرض المناسبة لنقل جحافل التنظيم إليها، لطبيعتها الجغرافية سواء حدودها الصحراوية والبحرية المفتوحة، علاوة على انقسامها بين سلطتين شرقًا وغربًا، وفرض قيود على إقامة جيشها وتسليحها بهدف تحويلها لساحة فوضى ومعسكر إرهابى مفتوح لجميع الجنسيات، فضلا عن ذلك يؤهلها موقعها لتنقل عناصر التنظيم إلى الداخل المصرى غربًا، ودول شمال أفريقيا شرقًا للالتحام مع فروع التنظيم في منطقة الساحل والصحراء.

تصدير القنابل البشرية من العراق وسوريا، بحسب مراقبين، تساهم فيه تركيا بقوة بعدما ساهمت في إدخالهم وتخشى من تحول إسطنبول إلى أرض خصبة للتنظيم ومعاقبته على الخيانة بعد التخلى عنهم في سوريا بعدما استشعرت خطورة الموقف وتبدلت معادلة مصالحها مع واشنطن، أيضا الدور القطرى في تمهيد الأرض الليبية عبر رجالها هناك ليس بعيدا عن ملف تصدير القنابل البشرية، لترضية الغرب وخشية وقوع أحد هذه العناصر في يد أجهزة الاستخبارات الغربية وكشف المستور عن رعاية الدوحة لرجال البغدادى خلال سنوات الربيع العربي.

سرت ودرنة
وبحسب مصادر ليبية شهدت الفترة الماضية عودة نشاط وتدفق عناصر مسلحة على مدينتى درنة وسرت في ليبيا، وبدأت تسير الدماء مجددا في عروق التنظيم بعدما نجح الجيش الليبى في تطهير هذه المناطق خلال الفترة الماضية.

حادث الواحات الإرهابى قدم هو الآخر، بحسب المصادر، دليلا دامغا على تدفق عناصر مدربة تدريبا جيدا وليست حديثة العهد بعالم الإرهاب، تجيد اختراق الحدود والتخفى وخوض حروب شوارع مع القوات الأمنية بناء على ما اكتسبته من خبرات في الرقة والموصل.

لم تستبعد المصادر المتحدثة في هذا السياق، تورط أجهزة استخبارات دولية لنقل هذه العناصر بذات الطريقة التي اتبعتها في الماضى عندما ساهمت في تدفقها على سوريا والعراق عبر المطارات التركية.

خطر داهم
تصدير التنظيم إلى ليبيا يثير المخاوف -من وجهة المصادر- على تسرب عناصره إلى الداخل المصري، خصوصا مع وجود عناصر موالية لجماعة الإخوان، المصنفة إرهابية، مستعدة لتوفير المدد والمعلومات لأى زائر إرهابى عبر الحدود، لخلخلة الأمن القومى للبلاد انتقاما لفشل مشروع الجماعة في التمكين، وهو هدف يجد دعما خارجيا من دول إقليمية فاعلة في التواصل مع التنظيم وأخرى وضعت مصر في خانة الأعداء منذ سقوط المشروع الفوضوي، وتتبادل مع القاهرة ابتسامات دبلوماسية تحمل من الكراهية ما يكفى للحذر.

القاهرة والعائدون من التنظيم
«عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى فلا يحدثنى أحد عن حقوق الإنسان»، مقولة شهيرة لرئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون، في خطاب شهير له، عقب أعمال الشغب والنهب التي شهدتها بلاده، أصبحت سمة رئيسية لتعامل الدول التي تزعم الاهتمام بحقوق الإنسان، لتتجاهل كل القوانين والمواثيق الحقوقية من أجل الحفاظ على أمنها القومي، وسلامة بلادها ضد الإرهاب.

ومع خفوت نجم التنظيم الإرهابى «داعش» في سوريا والعراق، أصبحت العديد من دول العالم وبالأخص الأوروبية، في حالة من الرعب، بسبب التقارير التي تؤكد محاولة الآلاف من أعضاء التنظيم العودة إلى بلادهم، بعد الخسائر الهائلة التي تعرضوا لها، بما دفع تلك الدول لتبنى مجموعة من التحركات، لحماية نفسها من الإعصار الإرهابى المحتمل.

النموذج الفرنسي
يعتبر النموذج الفرنسي.. الأشهر في الإجراءات الصارمة التي اتخذت لمواجهة تدفق مقاتلى داعش العائدين إليها، منذ بدء ورود التقارير الخاصة بعودتهم في 2012، فعلى الفور أصدر البرلمان الفرنسى قانونا خاصا بمواجهة الإرهاب، منح الشرطة والقضاة حق متابعتهم ومحاكمتهم، ووصلت العقوبة إلى الحبس مدة 10 سنوات، لكن مع تواصل العمليات الإرهابية وبالأخص عقب هجمات باريس في 2015، ارتفعت العقوبة إلى 20 و30 سنة، وانتهجت الشرطة الفرنسية وقتها سياسة جديدة، دون وضع أي اعتبارات حقوقية، شملت عمليات اعتقال للعائدين ووضع من لم تثبت ضدهم أدلة تحت الإقامة الجبرية، بل ووصل الأمر إلى اتخاذ قرارات بسحب الجنسية من المشتبه بهم، بما تسبب في واقعة استقالة وزيرة العدل كريستين توبيرا.

واستمرت باريس في محاولة فرض القوانين التي تحمى أمنها القومي، من خلال قانون مكافحة الإرهاب الذي صدر منذ أسابيع، والذي نص على تعزيز صلاحيات الشرطة الفرنسية فيما يخص عمليات مراقبة المشتبه بهم، إضافة إلى منح السلطات الأمنية حق إغلاق دور العبادة إذا وصلت إلى أدلة، أو مجرد شكوك، حول استخدام القيادات الدينية هذه الدور لخطاب دينى متطرف يحرض على العنف سواء نحو المجتمع الفرنسى أو خارجه، كما جاء فيه أيضا السماح للشرطة بإنشاء مناطق أمنية مغلقة في حالة توفر شبهات زمنية، وفرض قيود على حركة الأفراد وتحديدا عبر أنظمة المراقبة الإلكترونية.

النموذج البريطاني
أما فيما يتعلق بـ”النموذج البريطاني” في التعامل مع العائدين من داعش، فلا يمكن الحديث عنه دون ذكر التصريح الأشهر لوزير الدولة البريطانى لشئون التنمية الدولية رورى ستيوارت، الذي اعتبر فيه أن التصفية هي الحل الوحيد لتعامل بلاده مع المئات من مسلحى داعش البريطانيين في مناطق الصراع بالشرق الأوسط، قبل توافدهم على البلاد، وخروج الأمر عن السيطرة، على اعتبار أن أتباع داعش يدينون بعقيدة القتل وسفك الدماء فقط، وبالتالى يجب التعامل معهم بالمثل.

وللتأكيد على موقف ستيوارت، جاء تصريح من إدوين صمويل، يتحدث فيه عن اتساق موقف الأخير مع ما أعلنه وزير الدفاع البريطانى السابق مايكل فالون، عن وضع البريطانيين في صفوف داعش أنفسهم كهدف مشروع لصواريخ القوات الجوية البريطانية والأمريكية.

النموذج الألماني
وفى ألمانيا الوضع لا يقل تشددا، فكانت أهم الطرق التي تبنتها برلين لمواجهة خطر القادمين من داعش، إصدار حزمة إجراءات أمنية موسعة، تهدف لتشديد التعامل مع الأجانب الذين ارتكبوا جرائم جنائية والشخصيات التي تصنفها الدولة كـ«مصدر خطر»، للقبض عليهم وترحيلهم على الفور، إضافة إلى إنهاء فترات السماح للأجانب الملزمين بمغادرة البلاد، وإجراءات مقابلات شخصية لمن يريد دخول البلاد ويشتبه فيه، وتشمل فحوصات طبية ونفسية، للتأكد من عدم لجوء هؤلاء الأشخاص إلى ارتكاب أية أعمال عنف، مع رفض طلبات اللجوء بشكل عام لمواطنى بعض الدول وعلى رأسها الأفغان، إضافة إلى تشديد الرقابة على نظم الاتصالات، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق «الواتس آب» أسوة بالرسائل الإلكترونية القصيرة وأجهزة الهاتف، ووصل الأمر في ولاية بافاريا إلى مراقبة بعض المتشددين بأساور إلكترونية.

النموذج الروسي
على الصعيد الروسي، جاءت العديد من الإجراءات المشددة التي تبناها الرئيس فلاديمير بوتين، وجاء على رأسها حزمة قوانين، تنص على فرض قيود على سفر المتهمين بالضلوع في أعمال إرهابية، إضافة إلى تشديد الرقابة على خطوط الاتصالات وشبكة الإنترنت، وفى حال كان أحدهم على علم بمواقع الإرهابيين ولم يبلغ السلطات يواجه عقوبة الحبس، وتخفيض المسئولية الجنائية حتى سن الرابعة عشرة، بجانب عقوبة السجن التي تصل إلى سبع سنوات لمن يشيد علنًا بالإرهاب، حتى ولو جاء ذلك على الإنترنت، وتشديد الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر إلزام مزودى الخدمات ومسئولى الشبكات بتخزين الرسائل وبيانات المستخدمين، لمد الوكالات الحكومية بها ما إن أرادت ذلك، ونجحت في إحباط قراب الثلاثة وأربعين هجوما إرهابيا، والقبض على 800 إرهابى خلال العام الحالى فقط، بحسب تصريحات للرئيس الروسي.

صعوبة ترويض الإرهابى
وللحديث عن الأمر قال أحمد عطا، الباحث في الحركات الإسلامية لـ”فيتو”، حسب تقرير الأمن القومى الأمريكى لعام 2016 بلغ عدد العناصر التي انتقلت من دولة الشام والعراق إلى ليبيا عبر بعض البلدان الأفريقية ما يقرب من 2000 عنصر تكفيرى مسلح.

في نفس السياق - حسب ما أكدته المصادر الخارجية، أن أجهزة استخباراتية عربية تقف خلف عملية النقل والتدريب وتمويل كامل من وحدة الأموال الساخنة داخل جهاز أمن الدولة بقطر - أما عن الاختلاف بينهم وبين العائدين من أفغانستان وهم حالات فردية وتابعون لتنظيم القاعدة غير مدعومين من أي جهاز استخباراتى عربى وليس لهم معسكرات مسلحة كما هو قائم بالنسبة للعائدين من داعش إلى معسكرات سرت ودرنة في ليبيا، بهدف استهداف الحدود الغربية والقيام بهجمات من ناحية الغرب وهو ما تعاملت معه القوات المسلحة بقوة قتالية عالية المستوى.

تبقى المهمة الأكثر صعوبة - بحسب عطا- هي طرق مواجهة تلك الجماعات ومحاولة ترويضها وإعادة دمجها مرة أخرى في الشأن الداخلي، ومحو الأفكار الظلامية التي ملأت عقولهم خلال انضمامهم لتلك الجماعات، خاصة أن الأجهزة الأمنية لها تجربة مريرة مع الجماعة الإسلامية فشلت بشكل جزئى لعدد من القيادات التي تبنت مبادرة وقف العنف والمراجعات الفكرية، ومن ثم عادت وانقلبت على الدولة المصرية وأجهزتها مرة أخرى.

“عطا” أضاف قائلا: يبدو أن عملية السيطرة على هذه العناصر تمثل صعوبة على كل الأجهزة الأمنية العربية، لعدم وجود أجندة معلوماتية أمنية سياسية تخص هذه العناصر بسبب انتمائهم لجنسيات مختلفة من ناحية، ومن ناحية أخرى هذه العناصر تربت على عقيدة «فقه الجهاد المسلح»، والذي يصعب من السيطرة عليهم ومتابعتهم فكريًا، ويتطلب وقتًا طويلًا من المرجح فشله في نهاية المطاف بسبب تبنى هذه التنظيمات المسلحة هدف تفتيت الدول والأنظمة.

وبحسب الخبير في الحركات الإسلامية، فإنه في حال تقبل الدولة للتعامل مع هؤلاء وخوض تجربة الإصلاح، يأتى على رأس آليات تأهيل هؤلاء العائدين للاندماج المعالجة النفسية والعمل على تغيير أفكارهم بالنقاش والحوار الطويل الذي قد يتخذ وقتا.
ومن ثم تأتى في المراحل المتأخرة من العلاج، كيفية إعادة دمجهم مرة أخرى في الحياة العامة وتوفير فرص عمل للبقاء تحت أعين الأجهزة الأمنية، فضلا عن المتابعة الدورية لهم بشكل مستمر.

رعب في أوروبا
بعيدا عن مصر وليبيا، مخاوف دخول عناصر تنظيم داعش الإرهابى إلى العواصم الأوروبية، ظهرت في ألمانيا مع صدور تقارير عن تسلل متطرفين بين طالبى اللجوء السوريين والعراقيين الهاربين من الحرب الأهلية.

وأظهرت دراسة مركز المعلومات ومركز مكافحة التطرف والجريمة الاتحادى بولاية “هسن” الألمانية ومكتب الأمن القومى أن أكثر من 900 شخص- تتراوح أعمارهم بين 13 و62 عامًا- غادروا ألمانيا خلال الأعوام الماضية متوجهين إلى سوريا وشمال العراق للقتال مع داعش وتنظيمات متطرفة أخرى، عاد منهم حتى الآن 274 شخصًا.

أجهزة الأمن الإسبانية تشعر هي الأخرى بالقلق أيضًا من العائدين إلى دول المغرب العربى المجاورة لها، والتي خرج منها 5،319 مقاتلا منذ 2012. ومنذ أوائل 2015، تناولت الصحف الإسبانية منها “إيه بى اس” ارتفاع مستوى التعاون الحذر والتعاون بين مدريد والرباط بعد عودة نحو 200 إلى الأخيرة.

في 2016، كان يتجول في شوارع المملكة المتحدة 400 داعشى أصابتهم هزائم التنظيم في منطقة الشرق الأوسط بالإحباط، بحسب وزارة الداخلية البريطانية. قال مدير جهاز الأمن البريطانى الداخلى إن عددًا أقل من المتوقع عاد من بين مسلحى داعش بريطانى الجنسية الـ 800 الذين كانوا قد انضموا للتنظيم.


فرنسا أيضا من الدول الأوروبية المتوقع عودة أعداد كبيرة من مسلحى داعش إليها، نظرًا لانضمام ما يُقارب الألف من مواطنيها- معظمهم من مزدوجى الجنسية- إلى التنظيم منذ 2012.

ومؤخرًا، أعلن وزير الداخلية الفرنسى “جيرار كولومب” عودة أكثر من 240 شخصًا منهم كانوا يقاتلون في سوريا والعراق، لافتًا إلى استعداد السلطات لعودة 700 شخص (بينهم 300 امرأة) لا يزالون هناك من خلال الاتفاقات الموقعة بين فرنسا وتركيا التي تسمح بمراقبة هؤلاء العائدين الذين يشكلون خطرا محتملا لتنفيذ اعتداءات في فرنسا.