3 كيلومترات تفصل بيتى عن مكان عملى، حين نترجمها إلى مسافة زمنية لن تتخطى بضعة دقائق فى الذهاب وساعة كاملة فى الإياب لأننى أفضل المشى.
 
وخلال هذه المسافة القصيرة جدًا التى تتمحور حولها حياتى كلها تقريبًا فى الفترة الأخيرة لا أحد تقريبًا يرانى كما أنا، باستثناء القليل من الأصدقاء المقربين، أما الغالبية ممن يقابلوننى فلا وقت لديهم للتفكير أو الاستكشاف، هناك دائمًا قالب بانتظارى.
 
هل أبدأ بالترتيب؟ فى رحلة العودة إلى البيت التى تحمل الكثير من التفاصيل أحب أن أبدأ دائمًا من بائع الذرة، ذلك الصعيدى الطيب الذى أشترى منه على مدار عامين، ويفضل أن يمنحنى لقب "الدكتورة"، يتحدث معى بإعزاز واحترام، بعد أن ارتاح لذلك القالب الذى وضعنى فيه. يرانى أعود أحيانًا فى أوقات متأخرة، يتوسم فيّ الأدب، وبنظرة سريعة لنظارتى قرر أننى بالتأكيد طبيبة، فهذا هو التفسير الوحيد لمواعيدى التى تتناقض مع مظهرى ولا شيء يجعل المعادلة متسقة سوى العمل فى الطب.
 
خلال رحلة التسوق التى تبدأ من بعد مغادرتى إياه وتمتد حتى البيت، أمشى فى مسار محفوظ، بائع الخبز، متجر اللحوم المستوردة، بائع الخضروات، ثم بائع الفاكهة، وأحيانًا أمر على السوبر ماركت لأتم قائمة المشتروات اليومية.
 
خلال الجولة التى تستغرق أحيانًا نصف ساعة وأحيانًا أكثر، أفضل أن أجرى كل المكالمات التى يجب أن أجريها كى لا أرد على الهاتف أبدًا فى البيت، فى عيون البائعين أرى شبح ابتسامة أحيانًا وشبح سخرية فى أحيان أخرى، من تلك البنت التى لا يفارق الهاتف أذنها أبدًا، حتى أنها لا تريد التخلى عنه فى تلك الدقائق التى تتسوق خلالها، أحيانًا يقرر بعضهم أن يهذبنى بتجاهل دورى فى الطابور طالما أنا لم أحترم طقوس التسوق المبجلة وأترك الهاتف! 
 
بائعة اللحوم المستوردة التى أشترى منها الطعام يوميًا للقطط، لم تكن تعرف هذا السر، وضعت العديد من السيناريوهات لتفسر شرائى يوميًا كيلو كامل من الكبدة المستوردة، أعتقد أنها فى مرة فكرت أننى أدير مشروعًا للسندوتشات أو ربما لدى أسرة كبيرة مهووسة بالكبدة أو أنها لم تجد تفسيرًا أبدًا لأنها فى النهاية اضطرت أن تسأل بطريقة غير مباشرة عن سر هذا الطلب اليومى، وحين عرفت أننى أشتريها للقطط اختفت النظرة الودودة من عينيها وباتت تعتبرنى فتاة مدللة سخيفة، أقدم للقطط طعامًا يشتريه الناس لأسرهم، قفز سعر الكيلو جنيهين بعد أيام، على الرغم من أننى أحيانًا أكتفى بأكل البطاطس المقلية حين تختل الميزانية لأنه لن يمكننى بالطبع تقديمها للقطط.
 
فى العمل أقابل المزيد من الصور النمطية، خاصة حين أخرج من دائرة الكيلومترات الثلاث، النظرة الصارمة على وجهى بسبب التركيز فى العمل تعنى للبعض أننى بالطبع لن أفهم أية نكتة، أو يصدموا حين القى واحدة. حجابى يعنى أننى بالتأكيد "إخوانجية"، لدرجة أن أحدهم كان يمتنع عن إلقاء تحية الصباح عليّ لأنه "ما بيحبهمش"، فى استطلاع بالشارع يتعمد الرجل الذى أسأله عن رأيه فى أى شيء، غالبًا لا علاقة له بالسياسة، أن يشتمهم ويتلذذ بمراقبة رد الفعل على ملامحى.
 
يتحدث إليّ آخر عن المعاناة التى بالتأكيد لن يعرفها أمثالى من الصحافيين، وتجزم أخرى أننى، كصحفية مدللة، لا أعرف بالطبع شيئًا عن المطبخ. عشرات القوالب أتنقل بينها فى كل دقيقة، وعشرات الألقاب والوجوه أحملها، رغمًا عنى، كل يوم، الكل يكتفى بالتحديق فى قطعة "البازل" الأقرب إليه والتى يعرفها أكثر، ولا أحد يهتم أبدًا بأن يرى اللوحة كاملة!