لم تكن هزيمة العام 1967 هزيمة للعقل العربي فحسب، كانت أيضا هزيمة للنظام الإقليمي الذي نشهد مرحلة متقدّمة من تفكّكه بسرعة مذهلة بعد 50 عاماً على هذه الهزيمة. ما نشهده اليوم ليس اقلّ من إعادة تشكيل المنطقة ولكن ليس بالطريقة التي ارادتها الولايات المتحدة بعد حرب العراق واسقاط نظام صدّام حسين الذي لعب دوره في المسّ بنسيج المجتمع العراقي تمهيدا لتفتيته ووصوله الى ما وصل اليه اليوم في ظل حكم الميليشيات المذهبية المتنوّعة التابعة لايران.

كانت الحسابات الأميركية تقوم على انّ العراق، الذي يمتلك ثاني اكبر احتياط نفطي في العالم، سيكون بعد سقوط النظام فيه، نموذجا لما يفترض ان تكون عليه دول المنطقة، أي دول ديموقراطية فيها تعددية حزبية وتداول سلمي للسلطة نتيجة انتخابات تتنافس فيها الأحزاب المختلفة.

كان العراق بلدا غنيّا وفي غاية الاهمّية على الصعيد الاقليمي. كان من أعمدة النظام الذي قام على أساسه الشرق الاوسط في عشرينات القرن الماضي في ضوء انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى. الاهمّ من ذلك انّ العراق كان من البلدان القليلة في المنطقة التي تمتلك ثروات طبيعية وثروة إنسانية في الوقت ذاته.

قبل انهيار العراق في 2003، كان لا يزال ممكنا استيعاب النتائج التي ترتبت على هزيمة 1967 التي مكّنت إسرائيل من احتلال الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية والجولان.

على الرغم من كلّ ما حققته إسرائيل، بقيت منبوذة في المنطقة العربية. لم تستطع اختراق ايّ مجتمع عربي على الرغم من توقيع مصر والأردن اتفاقي سلام معها في 1979 و1994. لم يستطع الإسرائيليون بيع تنكة زيت زيتون في لبنان عندما احتلّوا قسما لا بأس به من أراضيه العام 1982 وعلى الرغم من كلّ الجهود التي بذلوها لاقامة علاقات مع مجموعات لبنانية في مرحلة معيّنة.

بدأ عصر الهزيمة يطلّ برأسه مع بدء محاولات للقضاء على الأردن كدولة تمتلك مؤسسات قويّة في مرحلة ما قبل 1970. استطاع الملك حسين، رحمه الله، حماية المملكة الهاشمية والمحافظة عليها عندما تصدّى «الجيش العربي»، وهو الاسم الرسمي للجيش الأردني، للمسلحين الفلسطينيين الذين كانوا يريدون تحرير القدس عبر عمّان!

ما فشل في الأردن نجح في لبنان بعدما قرّر حافظ الأسد، مؤسس النظام السوري الحالي الاستعانة بالميليشيات للقضاء على لبنان ووضعه تحت وصايته. اخذ منظمة التحرير الفلسطينية رهينة في طريقه بعدما اخطأ ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، واعتبر ان السيطرة على ارض لبنانية وإقامة «جمهورية الفاكهاني» اهمّ بكثير من حماية القرار الفلسطيني المستقلّ. كان ممكنا للقرار الفلسطيني المستقل انّ يوصله الى افضل بكثير من اتفاق أوسلو في مرحلة ما بعد قيام أنور السادات بزيارته للقدس في نوفمبر 1977، أي قبل ان يصبح في الضفة الغربية ما يزيد على 600 الف مستوطن في اقلّ تقدير.

بقيت ظاهرة الميليشيات محدودة، الى حدّ ما في لبنان، خصوصا مع خروج المسلحين الفلسطينيين منه اثر الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982. لكنّ الأسد الاب ما لبث ان اعطى هذه الظاهرة بعدا جديدا مع سماحه بتسلل عناصر «الحرس الثوري» الايراني الى الأراضي اللبنانية آتين من سورية. ساهم على طريقته بتأسيس «حزب الله» كلواء في «الحرس الثوري» يعمل انطلاقاً من لبنان وينفّذ سياسة تمليها عليه ايران. وزادت حاجة الأسد الى استرضاء ايران في وقت كانت الحرب العراقية التي استمرت بين 1980 و1988 تهدّد كلّ منطقة الخليج.

استخدم رئيس النظام السوري وقتذاك الميليشيا الايرانية التي كانت قيد التأسيس في لبنان لابتزاز العرب والعالم، خصوصا اميركا وأوروبا، في لعبة في غاية في الدهاء مارسها حتّى يوم وفاته في يونيو 2000.

كانت حال اللاحرب واللاسلم والسيطرة على القرارين الفلسطيني واللبناني جزءا لا يتجزّأ من السياسة السورية في عهد الأسد الاب الذي لم يقبل باتفاق الطائف الذي انهى الحرب الداخلية في لبنان الّا على مضض. كان يخشى من ان يؤدي هذا الاتفاق بين اللبنانيين الى خروجه من لبنان. حافظ برموش العين على ميليشيا «حزب الله» وعمل باكرا على التخلّص من الرئيس رينيه معوّض الذي انتخب في 1989 وكان يحظى بدعم عربي ودولي، كما كان يسعى الى ان يكون الطائف اتفاقا بين اللبنانيين من دون مرجعية سورية له.

كان الأسد، وزير الدفاع السوري، لدى حصول هزيمة 1967 وسقوط الجولان، رمزا لعصر الهزيمة. كان همّه الاوّل محصورا في تفادي أي سلام مع إسرائيل يعيد الهضبة المحتلة الى سورية. لكنّ نقطة التحوّل الحقيقية التي اذنت ببدء عصر الميليشيات المذهبية، فكانت الاحتلال الاميركي للعراق في ابريل 2003 وتسليمه على صحن من فضّة الى ايران. سيطرت الميليشيات المذهبية عمليا على العراق يوم سقط تمثال صدّام. زاد الضغط على البحرين وزادت وتيرة التدخلات في شؤون الكويت وصولا الى كشف «خليّة العبدلي» التي تبيّن مدى تورّط «حزب الله» فيها. وهو تورّط استدعى زيارة الرئيس سعد الحريري للكويت من اجل الحدّ من انعكاساته على العلاقات الكويتية - اللبنانية والخليجية - اللبنانية، خصوصا ان مئات آلاف اللبنانيين من كلّ الطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية يعملون في دول الخليج.

بعد 2003، صعد نجم الحوثيين في اليمن. خاضوا حربهم الاولى مع نظام علي عبدالله صالح في صيف 2004. في الوقت ذاته، لم يعد سرّا ان الأحزاب المذهبية العراقية التابعة لإيران تحكم البلد. وفي سورية، لم يعد سرّا ان نظام بشّار الأسد تحت سيطرة ايران والعلاقة المتميّزة العميقة مع «حزب الله». صار القرار الايراني يتحكّم اكثر فاكثر بالقرار السوري. وفي لبنان نفسه، لم يعد سرّا من اغتال رفيق الحريري في فبراير 2005 ومدى ارتباط الجريمة بحلول الوصاية الايرانية مكان الوصاية السورية، خصوصا مع خروج الجيش السوري من البلد في ابريل.

في 2017، لم يعد أي مجال لاخذ ورد في شأن من يتحكّم بالعراق ومن يحمي بشّار في دمشق ومن يسعى الى الهيمنة على لبنان. لم يعد خافيا على احد ان من يمنع اعادة فتح مطار صنعاء، وقبل ذلك وضعه في اشراف الامم المتحدة، هو ايران.

من يستعرض فصول معركة الموصل وكيفية القضاء على تلك المدينة العراقية لا يعود لديه ادنى شكّ في ان عصر الميليشيات حلّ مكان عصر الهزيمة. أي مستقبل للعراق؟ أي مستقبل لسورية؟ ايّ مستقبل لليمن في عصر الميليشيات؟ أي مستقبل للبنان في حال بقي «حزب الله» مصرّا على تعويض خسائر ايران في سورية بفرض سيطرته الكاملة على الوطن الصغير؟

دام عصر الهزيمة طويلاً. مؤسف انّ لا نهاية في الأفق لعصر الميليشيات، لا لشيء سوى لانّه يحصّن عصر الهزيمة. اين مشكلة إسرائيل وداعميها ومحبّيها في ذلك؟