نصف أنفسنا فى الكثير من المناسبات بأننا شعب متدين بطبعه، ونحن فى مصر تفصلنا عن قيم الأديان والمعتقدات أزمان كثيرة، فالأديان والعقائد والمعتقدات التى تميز ما بين السماوى أو الإبراهيمى فيها وبين الوضعى، جميعها تحث على العمل، والحب، والود، والإخلاص، وتكاد تكون وصايا موسى العشر قاسماً مشتركاً بينها، فالنهى عن القتل، والزنا، والسرقة وشهادة الزور واشتهاء ما لدى الغير كلها مذمومة، والحث على طاعة الرب وود الوالدين والبر بهما وحب البشر أجمعين سمات مشتركة لدى الأديان والعقائد.

لدينا فى مصر ظاهرة التدين الشكلى بمعنى اتخاذ مظاهر وممارسة سلوكيات التدين، لكن الجوهر بعيد تماماً عن صلب الدين، نحرص على الظهور بمظهر المتدين، وجوهرنا منصرف تماماً عن قيم الدين الحقيقية، نتحدث كثيراً عن الدين ونمارس سلوكيات لا علاقة لها بقيم التدين الحقيقى.

نزج بالدين فى كل خطوة من الخطوات وسلوك من السلوكيات دون أن تسكن قيم الدين الحقيقى القلوب أو تستوطن العقول. اتسعت الفجوة بين مظاهر التدين وقيم الدين فى مطلع السبعينات عندما جاء السادات وروج للتدين الشكلى واللفظى، فتح أبواب السجون لعناصر جماعة الإخوان وسلم لها التعليم برمته فخربت عقول النشء، انفتح على المملكة العربية السعودية فوفدت رياح الوهابية وغزت مجتمعنا المصرى، لا سيما مع هجرة قطاعات واسعة من المصريين باتجاه بلدان النفط، سمى السادات نفسه بالرئيس المؤمن، وسمى مصر بدولة العلم والإيمان، واستغرق فى نشر التدين الشكلى عبر تديين المجال العام فى البلاد.

كانت النتيجة نشأة أجيال جديدة من المصريين مرتبطة بالتدين الشكلى، حريصة على مظاهر التدين والحديث عن الدين وتديين كل ظاهرة، والبحث عن تفسير دينى لظواهر طبيعية، ووصل هذا الهوس إلى بيروقراطية الدولة وأجهزتها على النحو الذى يفسر احتفاء محافظ المنيا على سبيل المثال ببيضة فرخة باعتبارها بيضة مقدسة، لأن عليها ما يشبه لفظ الجلالة، ورغم وجود تفسير علمى لهذه الظاهرة على النحو الذى ذهب إليه الدكتور خالد منتصر، فإن السيد المحافظ تعامل مع البيضة بكل هيبة ووقار وقام بتقبيلها باعتبارها مقدسة.

بنفس المنطق تعامل بعض لاعبى فريقنا الوطنى لكرة القدم وعدد من الإعلاميين مع حضور مدير المنتخب الوطنى الأرجنتينى الجنسية هيكتور كوبر، مع حضوره جزءاً من خطبة الجمعة مع اللاعبين وحرصة على الامتناع عن الأكل والشرب فى نهار رمضان فى حضرة اللاعبين، على أن المدرب سوف يشهر إسلامه، راقبوا كل خطوة وكل حركة للرجل وعقبوا عليها بالقول اقترب من اعتناق الإسلام، على خطوات من إشهار إسلامه، لم يتوقفوا أمام حرفية الرجل وأنه مدرب محترف يتعايش مع لاعبيه ويحرص على معايشتهم، لم يتوقفوا أمام حرص الرجل على الاندماج مع اللاعبين وتهيئتهم للمباراة الأخيرة أمام تنزانيا، والتى ستصعد بالفريق إلى نهائيات كأس الأمم الأفريقية لأول مرة بعد غياب ثلاث مرات متتالية، لم يجدوا فى معايشة المدرب للاعبيه سوى أنه على وشك اعتناق الإسلام، وعندما كثر الحديث عن الموضوع اضطر الرجل لأن يعلن صراحة وعلى الملأ أنه لا يفكر فى اعتناق الإسلام، وأن حضوره جزء من خطبة الجمعة وامتناعه عن الطعام فى نهار رمضان هو نوع من معايشة اللاعبين بصفته مدرباً محترفاً!!

آن الأوان لوقف حالة الهوس والتدين الشكلى والعمل وفق المبدأ الإيمانى الذى يقول «الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل»، احتفظوا بالإيمان فى القلوب، ولتكن أعمالكم دالة على ما فى قلوبكم من قيم ومبادئ، تعلموا وعلموا أولادكم أن من يختلف معكم ومعهم فى الدين أو المعتقد أو الحضارة ليس مشركاً ولا كافراً أو نجساً، تعلموا وعلموهم حب الناس على مختلف أديانهم، افتحوا قلوبكم وعقولكم لكلمات الرائع الراحل نيلسون مانديلا التى قال فيها: «لا يوجد إنسان ولد يكره إنساناً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه.. الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية إذاً بإمكاننا تعليمهم الحب... خاصة أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية».

آن الأوان للتخلص من إرث التعصب والانغلاق والكراهية واستلهام قيم المحبة والتسامح والعيش المشترك واحترام المغاير والمختلف، تلك هى مصر التى نتطلع إليها، مصر المتوسطية المنفتحة على العالم، والتى احتضنت أصحاب مختلف الأديان، والطوائف، والعقائد والمعتقدات على مر تاريخها، وكانت ملاذاً آمناً للجميع من يهود (يوسف) ومسيحيين (السيد المسيح عندما كان طفلاً) ومسلمين (فى زمن الخلافة الأولى)، ولاحقاً كانت ملاذاً لكل باحث عن الأمن والأمان، فكانت ملاذاً آمناً لملوك ألبانيا، واليونان وإمبراطور إيران بعد خلعهم من السلطة.