100 عام مرت على اتفاقية سايكس بيكو، والمنطقة على وشك الانهيار، صاغ الاستعمار شكلا لترسيم الحدود فى الوطن العربى ومنطقة الشرق الأوسط دون أدنى إرادة من شعوبها، وها هى الآن تترسم من جديد، والحال ظاهر فى العراق وسوريا واليمن وغيرها، ومن دون إرادة أيضًا.

فى خضم أحداث الحرب العالمية الأولى التى اندلعت عام 1914، رسم موظف بريطانى وآخر فرنسى حدود بلدان المشرق العربى، فى إطار ترتيبات الدول الاستعمارية الصاعدة لاقتسام ممتلكات السلطنة العثمانية، لكن روسيا كشفت بعد شهور الخطط السرية للمستعمرين بعد إسقاطها نظام القيصر، وانسحابها من الحرب.

لكن ذلك لم يمنع بريطانيا وفرنسا بعد انتهاء الحرب من المضى فى تقسيم دول المشرق العربى، وفق ترتيب جرى التوافق عليه فى مؤتمر "سان ريمو"، وقريب مما أنجزه مارك سايكس وفرانسوا بيكو.

من هما سايكس وبيكو؟

يعرف المواطن العربى أو حتى القارىء السيار أسماء الأشياء أو المعاهدات دون معرفة ما هو أكثر من ذلك. لذا فمعرفة الرجلين اللذين سميت الاتفاقية باسميهما مهم للغاية.

فسايكس هو العقيد سير مارك سايكس، الذى ولد فى 1879 ومات عن 40 عاما فقط، متأثرا بإصابته بالإنفلونزا الإسبانية. عمل مستشارا سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا، ورحالة بريطانى، مثّل بلاده فى محادثات سرية لاقتسام أراضى السلطنة العثمانية فى المشرق والأناضول مع فرنسا وروسيا، ووقع على الاتفاقية المعروفة بـ"سايكس-بيكو"، وأشارت بعض المصادر إلى دوره فى إعداد "وعد بلفور".

أصدر فى سن مبكرة نسبيا عددا من الكتب، بينها كتابان فى العلم العسكرى، وثلاثة عن السلطنة العثمانية وبلاد المسلمين، وتناول فيها الجغرافيا السياسية للمنطقة، ومشاهداته فى أثناء أسفاره فى آسيا الصغرى وبلاد المشرق بين عامى 1905 و1913.

أما بيكو فهو الحقوقى والسياسى الفرنسى فرانسوا جورج بيكو المولود عام 1870، وهو ابن المؤرخ الفرنسى جورج بيكو، والمفاوض على الاتفاقية السرية التى حملت اسمه إلى جانب الإنجليزى مارك سايكس. عمل سنتين فى محكمة الاستئناف قبل انتقاله إلى السلك الدبلوماسى عام 1896.

كما عمل سكرتيرا فى سفارتى بلاده بكوبنهاغن وباريس، قبل أن يصبح قنصلا عاما فى سفارة بلاده ببيروت عشية الحرب العالمية الأولى، وفيها نسج علاقات قوية مع زعماء الموارنة، قبل انتقاله للقاهرة ثم عودته منها إلى باريس ربيع 1915. وبوصفه عضوا فى الحزب الكولونيالى دافع عن المشرقيين العرب المتحمسين لتطبيق الانتداب على بلدانهم، وعُين مفوضا ساميا لبلاده فى سوريا وفلسطين بين عامى 1917 و1919، حيث مهّد الطريق أمام الجنرال غورو، عبر مطالبته فور تعيينه بإرسال عشرين ألف جندى فرنسى إلى الشرق، وانتقل بعدها للعمل وزيرا مفوضا فى بلغاريا ثم الأرجنتين، توفى بيكو عام 1951 عن 81 عاما.

تأثير الاتفاقية

فى آخر عهد الدولة العثمانية، كان الوهن والضعف هو المسيطر على مفاصلها الأساسية، حيث فقدت سيطرتها على كثير من أراضيها لصالح القوى الاستعمارية، فهيمنت فرنسا على الجزائر وتونس، واستحوذت إيطاليا على ليبيا، بينما كانت من نصيب بريطانيا مصر وعدن وعمان وبعض مناطق الخليج العربى وخصوصا الكويت.

أما بلاد الشام والعراق، فكانت تضم فى المراحل الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ولايات دمشق وحلب والرقة والبصرة وبغداد وبيروت، بينما بقيت القدس سنجقا تابعا للسلطان العثمانى مباشرة حتى احتلالها عام 1918 من قبل الجيش البريطانى.

وفى شبه الجزيرة العربية كانت ولايتان، هما نجد، والحجاز التى تضم مكة المكرمة والمدينة المنورة. بينما كانت اليمن مجرد ولاية عثمانية اسما، لكنها فى الحقيقة كانت خاضعة لتأثير أئمة الزيدية والزعماء القبليين.

الاتفاقية أقامت خمس مناطق فى المشرق العربى، الأولى تمتد من بغداد جنوباً لتشمل الكويت وتتصل بساحل الخليج، تحت سلطة بريطانية مباشرة، ومنطقة ثانية تجمع ما هو اليوم الجزء الشمالى من العراق وكامل الأردن وصحراء النقب وصولاً إلى سيناء، لتشكل منطقة نفوذ بريطانى.

المنطقة الثالثة كانت شريط ساحلى يمتد من الجنوب اللبنانى شمالا باتجاه محافظات مرسين والإسكندرون وأضنة، لتتسع براً إلى داخل الأناضول، وتكون تحت سيطرة فرنسية مباشرة. أما الرابعة فتقتصر على الشام، وتشكل أيضا منطقة نفوذ فرنسى. إضافة إلى منطقة اسمها القدس، وتكون تحت إشراف دولى نظرا لأهميتها الدينية.

وبموجب القسم المتعلق بروسيا نصت الاتفاقية على احتفاظ القيصر لدولته بإسطنبول والأراضى المتاخمة لمضيق البوسفور وأربع ولايات متاخمة للحدود الروسية فى شرقى الأناضول، بينما أعطى لليونان الشواطئ الغربية لتركيا وتُرك للإيطاليين السيطرة على جنوب غرب تركيا.

ماذا حدث بعد ذلك؟

بعد ترسيم الحدود كما هو مذكور سلفا، بقى الاستعمار الفرنسى البريطانى حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 مهيمنا فى بلدان المشرق، متسلحا بسلطة الانتداب الممنوحة له من قبل عصبة الأمم فى مؤتمر لندن عام 1922، مع استثناءات فى اليمن والسعودية والأردن، وارتبطت مصر والعراق مع بريطانيا بمعاهدات حدت عمليا من استقلالهما.

وبعد سنوات، تعهدت حكومة فرنسا بمنح الاستقلال للدول الخاضعة لانتدابها، وهذا ما تحقق فى سوريا ولبنان، أما بريطانيا فشجعت هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية خلالها، مفسحة لهم الباب لإنشاء دولة إسرائيل عام 1948.

ومنذ ذلك التاريخ، لم تشهد دول المشرق العربى تغييرا يذكر فى حدودها، إلا بعد توحيد شطرى اليمن عام 1990، كما أن اتفاق أوسلو عام 1993 بين إسرائيل والفلسطينيين لم يؤد عمليا إلا إلى سلطة حكم ذاتى محدودة السيادة فى الضفة وغزة، وغير متواصلة جغرافيا.

مخاوف ما بعد الـ 100 عام

جاءت جحافل الأمريكان لتغزو العراق فى 2003 بعد أن كانت متواجدة عسكريا فى المنطقة قبل هذا التاريخ بنحو 12 عاما، فصار العراق مهددا بالتقسيم لمناطق ثلاث، شيعية وسنية وكردية.

قامت ثورة سلمية فى سوريا، قمعها نظام الأسد بعنف وقسوة، فصارت سوريا مهددة بالتقسيم بعد دخول عدد كبير من الأطراف المسلحة المتنازعة، كالمعارضة وجبهة النصرة وداعش وغيرها، وأصبحت البلد التى حكمها البعث لما يقرب من نصف قرن، مهددة بترسيم سياسى وحدودى جديد.

قامت ثورة فى ليبيا وقُتل القذافى بوحشية، فجاءت جحافل الإرهابيين من كل حدب وصوب، وقسموا ليبيا كما يشاؤون ولاية هنا وأخرى هناك، حتى أن السلطة نفسها أصبحت سلطتين.

ما زالت إسرائيل تمارس وحشيتها وتوغلها واعتدائها على اتفاق أوسلو وما قبلها، ولازالت تعتدى بشكل أو بآخر عن آخر ترسيم للحدود لتشكل ترسيما جديدا يضمن لها الاستمرار والبقاء لفترة أطول.

الخريطة ما زالت تتغير ودون إرادة من الشعوب أيضا.