اجواء الفرح تملأ المكان، اليوم يوم سعيد على بيت القزدوغلي الشهير في مصر عام 1716، إنه عصر عرف لاحقًا بعصر «صحوة المماليك»، عضوة جديدة تنضم للعائلة، قالوا اسمها أمينة، ابنة حسن جرباجي القنداجي، اختارها الأمير حسن كتخدا القزدوغلي زوجة له. اليوم تبدأ قصة جديدة في بيت القزدوغلي، ستتغير حياة العروس الجديدة وكل أبناء العائلة، سينطلق الجميع في رحلة لا يعرفون ما ينتظرهم في نهايتها.. الدم.
كان حسن وسليمان كتخدا هما المملوكين المفضلين لمصطفى كتخدا القزدوغلي، مؤسس منزل القزدوغلي في مصر، كما يذكر كتاب Unveiling the Harem: Elite Women and the Paradox of Seclusion in Eighteenth Century، فيما كان لحسن مملوكين مفضلين أيضًا هما عثمان كتخدا وسليمان جاويش، وكان لسليمان كتخدا بدوره مملوك مفضل هو إبراهيم كتخدا.
تزوج حسن وأمينة وأنجبا ولدًا، سمياه عبدالرحمن، ومرت الأيام على الزوجين والولد، لكن القدر لم يكن ليترك الأسرة مكتملة ليلقى حسن وجه ربه. أمينة تعيش وحيدة مع ابنها بعد وفاة حسن، أمر لا يرضي مملوكيه الوفيين، ليتزوجها عثمان كتخدا القزدوغلي.
كان عثمان قد أصبح في ذلك التوقيت أقوى أمراء المماليك، وكان يرأس المستحفظان، والتي تتكون من أوجقات الأقاليم، أو الوحدات العسكرية التي تحمي الأسوار. موقع شديد الأهمية في مصر العثمانية، موقعًا يثير لعاب الكثيرين ويلفت أنظار المتآمرين، وبزواجه من أمينة أصبح عثمان زوج أم عبدالرحمن ليحتضنه ويجعله رسميًا وريثه.
كان طلب صديق «عثمان»، صالح كاشف، أن يترقى لرتبة سنجق بك، أي حاكم مقاطعة، بداية لمؤامرة كبرى يقودها والي مصر العثماني في ذلك التوقيت من عام 1736، بكير باشا، للحد من سلطة المماليك في مصر، وكان «عثمان» شريكًا في المؤامرة لوضع صديقه على الكرسي المرغوب، غير مدرك أن المثل القائل من حفر حفرة لأخيه وقع فيها سينطبق عليه تمامًا.. كانت الثواني فقط تفصله عن الوقوع في الحفرة.
الاتفاق تم وها قد حان موعد التنفيذ، الهدف الأول ثلاثة أمراء من المماليك يقفون في طريق «الكاشف» لتولي المنصب، المهمة هي التخلص منهم إلى الأبد، المصيدة أعدت و«عثمان» في موقع الحدث يستدرج الأمراء إلى مرمى النيران، وفي وسط الظلام يدوي صوت الرصاص يمينًا ويسارًا، يصم الآذان والفوضى تعم في المكان، الثواني تمر كالدهر على المحيطين لكن سرعان ما ساد الصمت في محيط الموقع، انتهى كل شيء بالنسبة للمماليك الثلاث، المهمة نفذت بنجاح، لكن نظرة واحدة على القتلى كانت لتكشف مشكلة كبيرة لمنفذي العملية.. لقد أصابت رصاصاتهم شخصًا خطأ.. لقد أصابت رصاصاتهم الأمير عثمان كتخدا.
«كان الظلام يملأ المكان ولم نستطع التفريق بينهم»، هكذا برر منفذو العملية الأمر لوالي مصر، الذي استمرت مؤامرته بعد مقتل عثمان وأسفرت في النهاية عن قتل 11 أميرًا. وقد نعى القنصل الفرنسي «عثمان» قائلًا إنه كان «الرجل الوحيد القادر على الحكم في المملكة».
راح «عثمان» وترك خلفه ثروة كبيرة جمعها من التجارة، هو الذي كان على علاقة قوية جدًا بأغنى العائلات التجارية حينها، الشرابية. كذلك كان عثمان قد شيد مسجدًا بحي الأزبكية، انتهى من بناءه قبل عام واحد من مقتله، وتضمن محيط المسجد أيضًا كتاب سبيل، وربع للعمال والفنيين بخمسة غرف للمعيشة، بالإضافة إلى حمام وساقية. وكان منزل «عثمان» على البِركة، تجلس فيه أمينة وابنها بعد أن أصبحت هي المسؤولة والوريثة لدخل الوقف. كانت أمينة حامل في طفلة من زوجها المقتول، ولدتها عقب مقتله، لكنها لم تظل في أحزانها على رحيل والد ابنتها كثيرًا، بل نفضت عنها ثوب الحداد سريعًا وتزوجت من المملوك الأسبق لزوجها الأول، سليمان جاويش.
لكن زواج أمينة من «جاويش» لم يقيها ضربة جديدة لم تتوقعها هي وابنها من أحد رجال زوجها في المستحفظان وأحد أصحاب الرتب العالية، سليمان جخدار، الذي استولى على بعض أملاك زوجها المقتول عثمان كتخدا، بالإضافة إلى محظيته (عشيقته) شويكار.
حل عام 1739، قافلة الحج تخرج وعلى رأسها سليمان جخدار قائدًا للحرس، وقد وثق أحداث هذه الرحلة المؤرخ «الدمرداشي»، كاشفًا أن «جخدار» لم يرغب في مصاحبة القافلة نظرًا لمرضه، وقد صحبته في تلك الرحلة شويكار، والتي عرفت على أنها زوجته، وعندما وصلت القافلة بركة الحج، اشتد المرض على «جخدار» ليفارق الحياة،وبجواره سليمان جاويش، زوج أمينة، الذي سارع مع وفاة قائد الحرس بالذهاب إلى قائد القافلة، أو من أطلق عليه «أمير الحج»، عثمان بك ذو الفقار، قائلًا له إن عبدالرحمن بن عثمان كتخدا القزدوغلي هو وريث «جخدار»، ليعود حق الابن في ممتلكات أبيه المسلوبة، ويعم بعض السلام بيت القزدوغلي، ذلك الذي انقلب رأسًا على عقب مع دخول أمينة في رحابه، وتبقى نقطة التحول في حياة ابنة حسن جرباجي القنداجي المؤامرة الكبرى التي شارك فيها زوجها الثاني وراح ضحيتها، أو ما عرفت لاحقًا بـ«مذبحة 1736».