عالم‭ ‬رجالات‭ ‬السياسة‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬زاخراً‭ ‬بالأحداث‭ ‬وحافلاً‭ ‬بالمغامرات،‭ ‬لكن‭ ‬سيرة‭ ‬محمد‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬ليست‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬سير‭ ‬القادة،‭ ‬لما‭ ‬يتفرد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬القيادية،‭ ‬ولما‭ ‬تحويه‭ ‬سيرته‭ ‬من‭ ‬جدل‭ ‬كبير‭ ‬حول‭ ‬شخصية‭ ‬قائد‭ ‬قلما‭ ‬يتكرر‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭.‬
 
ويسرد‭ ‬كتاب «السادات»،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬32‭ ‬فصلاً،‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬السادات‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬ديسمبر‭ ‬1918‭ ‬بقرية‭ ‬ميت‭ ‬أبوالكوم‭ ‬بمحافظة‭ ‬المنوفية‭.‬
ويتضمن ‬الكتاب‭ ‬معلومات‭ ‬قيمة‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الوضع‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والمنطقة‭ ‬عموماً،‭ ‬لاسيما‭ ‬علاقة‭ ‬السادات‭ ‬بحركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين،‭ ‬ودخولها‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية،‭ ‬ومدى‭ ‬اختلاف‭ ‬توجهاته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬وغيره،‭ ‬عن‭ ‬سلفه‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭.‬
 
يذكر أن هذا الكتاب المثير للاهتمام متوافر في جميع المكتبات، وهو للصحافي في جريدة «لوموند» الفرنسية روبير سوليه، المولود في مصر عام 1964، والذي يتميز ‬بأنه‭ ‬يورد‭ ‬جميع‭ ‬الروايات،‭ ‬ولو‭ ‬متضاربة،‭ ‬لتعلقها‭ ‬بالأحداث‭ ‬التي‭ ‬غيرت‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر، وتاريخ الأمة العربية، بشيء من التفرد، ونقله من الفرنسية إلى العربية أدونيس سالم، وصدر عن دار «هاشيت نوفل»، بيروت 2015.
وتشجيعاً‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الحافل‭ ‬بالتشويق‭ ‬والإثارة‭ ‬تسلط‭ ‬‮ «الجريدة‮،‭ ‬عبر‭ ‬ثلاث‭ ‬حلقات،‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ .‬
في الأول من أكتوبر 1970 قدم المصريون بمئات الآلاف من مصر كلها، فاكتظت بهم الحافلات والشاحنات والعربات واجتاحوا القطارات، يتمسكون بسقوف عرباتها، كانت جنازة عبدالناصر في القاهرة مسرحا لمشاهد لا توصف من الألم والغضب والاضطراب، وعجزت قوات الأمن عن ضبط الوضع.
لكن أنور السادات غاب عن الجنازة، بعدما أصيب بانهيار مفاجئ ونقل للمعالجة إلى مقر المجلس القديم لقيادة الثورة، القريب من مكان التشييع، وهو يقول في مذكراته: «أعطاني الأطباء خمس حقن لم أفق منها إلا حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر».
وبعدها رشحته اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، من ثم مجلس الأمة للرئاسة، وقال السادات للنواب مؤكدا: «برنامجي هو برنامج عبدالناصر، أتعهد لكم بشرفي أن أستمر في السير على الدروب التي شقها مهما كانت الظروف». ثم أضاف بصوت تخنقه العاطفة: «لا شيء ولا أحد إلا الجماهير يستطيع سد الفراغ الذي تركه قائدنا الحبيب». وأعلن أنه عاجز عن أن ينجز وحده ما أنجزه عبدالناصر، ودعا إلى تقاسم للمسؤوليات، وأنهى خطابه بدعاء: «يا الله، لا تحملنا ما لا طاقة لنا على حمله»!
«أحمق ومهرج وبهلول»
غداة وفاة عبدالناصر، سأل صحافي مستشار الرئيس الأميركي نيكسون للأمن القومي هنري كيسنجر، عن رأيه في السادات، فأجاب بأنه لن يبقى في سدة الرئاسة أكثر من أسابيع قليلة، وقال عنه لرئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير: «إنه أحمق، ومهرج، وبهلول».
عين السادات لنفسه نائبي رئيس هما علي صبري (الرئيس الأبرز للتيار اليساري الموالي للاتحاد السوفياتي)، وحسين الشافعي، الذي يميل إلى اليمين، واختار لرئاسة الحكومة محمود فوزي، وهو دبلوماسي معتدل كان مستشارا للسياسة الخارجية لدى عبدالناصر بعد هزيمة 1967، وكانت الحكومة الجديدة بمنزلة شقيقة لسابقتها.
أصوات متآمرين
في 15 يناير 1971، وبحضور الرئيس السوفياتي نيكولاي بودغورني، دشن السادات السد العالي في أسوان، وهو الإنجاز العظيم لسلفه، فقد كان مقتنعا بأنه سيواجه «كتلة سلطة» تتشكل أساسا من «عملاء للاتحاد السوفياتي» سماهم «البوليتبيور» على اسم المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، كما ساوره الشك حتى بأن حياته في خطر، فاحتفظ بمسدس بالقرب من سريره.
ومساء 11 مايو، سلم ضابط شاب في الشرطة السادات شريط تسجيل فسمعه بعيدا عن آذان الخدم، على شرفة منزله، بوجود زوجته والمسؤول عن أمنه، حيث كان نائب الرئيس علي صبري ووزير الداخلية شعراوي جمعة يتحدثان عن الإطاحة بالرئيس، لذلك اقتنع السادات بأن ثمة من يريد التخلص منه، فألغى زيارة كان ينوي القيام بها في اليوم التالي إلى مديرية التحرير، بذريعة المرض، وفي المساء أقال شعراوي جمعة من منصبه، وبعد ثلاثة أيام أمر اللواء الليثي ناصف بسجن كل المتآمرين المفترضين عليه.
ثورة ثانية
وبعد أن خلت الساحة للسادات من خصومه، اتخذ بعض التدابير الاستعراضية، فأمر بإلغاء الرقابة السياسية والتجسس على المواطنين، وبإحراق أشرطة تسجيل المحادثات الهاتفية أمام الكاميرات في باحة وزارة الداخلية، كما أطلق سراح مئات المعتقلين السياسيين، وأغلق رسميا مراكز الاحتجاز الاحتياطي ووجه ضربة المعول الأولى لهدم سجن طرة المشؤوم.
 وبفضل هذه التدابير التي روجت لها كثيرا وسائل الإعلام كسب شعبية لا منازع عليها، ونجح في تسديد ضربة معلم، فقد شل وحده، في يوم واحد، حركة كل الذين كانوا يتحكمون بمفاصل السلطة الأساسية وبؤر المؤامرات السرية، والشبكات الموازية، أي وزارات الحرب والداخلية والإعلام وشؤون الرئاسة، ونائب رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الأمة والأمين العام للحزب الأوحد وموظفي أجهزته.
الرئيس المؤمن
وبعد أسابيع قليلة من ثورة القصر التي قام بها السادات، قرر أن يمنح مصر دستوراً جديداً، ذلك الدستور الذي خضع لاستفتاء الشعبي وأعلن في 11 سبتمبر 1971 لم يحد عن الخط الناصري: «جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة». ومع أنه جرى التأكيد فيه على حقوق المواطن بطريقة أوضح، فإن رئيس الجمهورية احتفظ بسلطات كبيرة، لكن الأهم ظهر في المادة الثانية من الدستور، التي نصت على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع». كانت تلك المرة الأولى التي يُدعى فيها القانون المصري الى الاستناد الى الشرع الإسلامي.
وبما أن عبدالناصر سعى الى السيطرة على مرجعيات الإسلام الرسمية الثلاث، أي جامع الأزهر المؤسسة الأعلى مكانة في العالم السني، ومفتي الجمهورية الذي يسهر على مطابقة قرارات الدولة للشريعة الإسلامية، ووزارة الأوقاف الدينية التي تشرف على الدعاة وبناء المساجد والأعمال الخيرية، فإن السادات سلك الطريق عينه، وأضاف الى تلك المرجعيات مجلسا لجمعيات الطرق الصوفية مكلفا بإدارة كل الأنشطة الصوفية، سواء أكانت عاملة أم خاصة، وهذا ما سمح له، كعبدالناصر، بالحصول على شرعية دينية لسياسته.
سنة اللا حسم
في 5 يونيو 1971، أي في ذكرى حرب الأيام الستة الكارثية أعلن السادات «سنة الحسم» مؤكدا: لن نسمح بمرور سنة 1971 من دون أن نقرر حلا، سواء أكان بالسلم أو بالحرب، حتى ولو اضطررنا الى التضحية بمليون إنسان خلافا لما يمكن توقعه.
وخلال الأشهر السبعة الأولى التي أعقبت توليه الرئاسة، زار موسكو أربع مرات للمطالبة بأسلحة وعتاد عسكري، فكان الكرملين يزوده إياها بـ»القطارة»، وتسلمت مصر صواريخ سام، وجزءا من الذخائر الموعودة، لكنها لم تتسلم مقاتلات، فأبلغ سفير الاتحاد السوفياتي في القاهرة في 6 يوليو 1972 أنه قرر الاستغناء عن خدمات الخبراء السوفيات الـ15 ألفا الموجودين في مصر وإعادتهم فورا الى بلدهم، فذهل السفير، لكن معظم المصريين هللوا لهذا القرار، فهم لم يحبوا قط أولئك الملحدين الذين يجرحون بأيديولوجيتهم الشيوعية مشاعر أبناء الشعب.
وفي 24 أكتوبر 1972 دعا السادات قادة القوات المسلحة الى مقر إقامته في الجيزة، وشرح لهم في مداخلة طويلة جدا أن هجوما عسكريا محدودا سيسمح بتحريك الوضع الجامد، وغداة ذلك الاجتماع أقال الضباط الذين تجرؤوا على الرد عليه، كما استبدل وزير الحرب الفريق محمد صادق، ناعتا إياه بالكاذب والانهزامي، ليعين مكانه مدير جهاز المخابرات الفريق أحمد إسماعيل علي.
السوفيات زودوا مصر منذ حرب الأيام الستة بعدة أسلحة من الجيل الجديد، من بينها دبابة (ت 62)، او النسخة الأخيرة من الطائرة الحربية ميغ 21، أما الإسرائيليون فأقاموا على الضفة الشرقية لقناة السويس خط بارليف الذي اشتهر بأنه مستحيل العبور، إلا أن قادة جيش السادات وجدوا بعض الحلول لاختراقه.
عملية التعمية
قرر السادات الحرب، لكنه جهد في إقناع الاسرائيليين بعكس ذلك، وإمعانا في التضليل، أوهم العالم في مايو 1973 بأن الهجوم بات وشيكا، بعدما أعلن نفسه قائدا أعلى للقوات المسلحة وكذلك رئيسا للوزراء ورئيسا للحزب الأوحد، وتواصلت عملية التضليل، فراحت الصحافة العربية التي تكفلت «مصادر موثوقة» بتزويدها بالأخبار تتحدث عن الصعوبات التي يواجهها الجيش المصري.
واتفق السادات سرا مع حافظ الأسد على أن تشترك القوات السورية المصرية بشن هجوم في 6 أكتوبر، واختير هذا التاريخ لأسباب كثيرة، ففيه يقع عيد الغفران اليهودي، وهو يوم صيام في إسرائيل وتتوقف حركة النقل فيه، ويشرق البدر فيه مكتملا حتى انتصاف الليل، مما يسهل بناء الجسور، ويلي ذلك ظلام دامس يسمح بعبور القناة بشكل آمن تماما، وأطلع الملك الأردني حسين والملك السعودي فيصل على نيته شن حرب، من دون أن يحدد لهما تاريخها، وكذلك فاتح بالأمر شاه إيران خلال لقاء سري في طهران.
نتيجة تتجاوز كل الآمال
أطلق على العملية اسم بدر، تيمنا باسم المنطقة الواقعة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة، حيث انتصر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على قريش في شهر رمضان، كما أن للتسمية دلالة اكتمال البدر، واعتمد السادات على عنصر المفاجأة، فعند الساعة الثالثة والربع كانت 20 كتيبة من المشاة قد عبرت القناة ووصلت إلى الضفة الثانية، وفي المساء وبعد فتح 60 ثغرة في الساتر الترابي، ركب 12 جسرا سمحت لأعداد لا تحصى من الدبابات والعربات المدرعة والمعديات بعبور القناة.
لكن الإسرائيليين استعادوا توازنهم، وبدأوا بشن هجمات مضادة خطيرة، وألح السوريون الذين يواجهون مصاعب في الجولان على السادات بمواصلة هجومه شرقا لتخفيف العبء عن جبهتهم، ومع هبوط الظلام مساء 15 أكتوبر، نجحت فرقة إسرائيلية بقيادة أرييل شارون في الوصول إلى قناة السويس، ثم في عبورها، بمواجهة الدفرسوار، وفي 18 أكتوبر حوصر الجيش المصري الثالث.
 وأشار رئيس الأركان سعد الشاذلي لاحقا إلى «عدم الكفاءة العسكرية للسادات»، واتهمه بـ»التسبب بخسارة أقوى جيش أنشأته مصر في تاريخها»، لكن السادات ألقى بمسؤولية الهزيمة على عاتق رئيس الأركان، وبعدها عزل الشاذلي من منصبه، ووافق السادات على وقف إطلاق النار، ثم أبرق السادات إلى الرئيس السوري يقول: «قبلت وقلبي ينزف دما وقف إطلاق النار، لأنني مستعد أن أحارب إسرائيل مهما طال الوقت، لكنني غير مستعد على الإطلاق لمحاربة أميركا».
انتفاضة الخبز
وفي يناير 1975 وبينما الاحتفالات بـ«النصر» لاتزال تقام هنا وهناك، تحولت مظاهرات سُيرت ضد غلاء المعيشة الى انتفاضة شعبية في مدينة حلوان الصناعية على مداخل العاصمة، وبعد ثلاثة أشهر اشتعلت المحلة الكبرى، عاصمة النسيج، وأطلق الجيش النيران على العمال موقعا عدة قتلى، وكانت الأرقام تقض مضجع السادات، ورغم ذلك أعيد انتخابه رئيسا للجمهورية في 17 سبتمبر 1976 بنسبة (99.939 في المئة)، وفي بداية 1977 ألغى الدعم على بعض السلع كـ»الشاي مثلا»، وخفض على بعض السلع الأخرى (الخبز الأوروبي، والأرز، والسكر، والسجائر، وقوارير الغاز)، فاشتعلت مصر، وعجزت الشرطة عن مواجهة الواقع، فاستدعى السادات الجيش الذي قسم العاصمة إلى مناطق نشر فيها وحداته، وفرض منع التجول وأصدر الأمر بإطلاق النار على «المحرضين».
ولم يؤثر شيء فيه أكثر مما أثرت فيه تلك الانتفاضة، كما يؤكد أحد المؤتمنين على أسراره، فمنذ ذلك الحين، بدأ يمقت العاصمة، ويصفها باحتقار بـ»مدينة الأفنديات».
مصافحة بيغين
في 16 سبتمبر 1977، تقرر عقد لقاء سري في المغرب برعاية الملك الحسن الثاني بين بيغين والسادات والجنرال دايان، ونائب رئيس الوزراء المصري حسن التهامي، وكان العاهل المغربي قد رتب قبل أسابيع قليلة لقاء سريا آخر، في قصره في إفران بين التهامي نفسه الذي رافقه الفريق كمال حسن علي رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية والجنرال إسحق حوفي رئيس الموساد.
كانت مهمة التهامي أن يقول لرئيس الدبلوماسية الإسرائيلية إن مصر مستعدة للبدء بمحادثات سلام، غير أن «السادات لن يصافح بيغين قبل أن تتعهد اسرائيل بالانسحاب من كل الأراضي العربية التي احتلتها في عام 1967»، لكن الإسرائيليين ما كانوا ينوون أبدا الالتزام بأمر كهذا، مما اضطر الحسن الثاني الى الاعتراف بأن الخلافات بين الطرفين لاتزال شاسعة.
وفي 11 نوفمبر 1977 توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين للمرة الأولى الى «المواطنين المصريين»، فقال لهم بالإنكليزية في رسالة بثت عبر الإذاعة «سيكون من دواعي سرورنا استقبال رئيسكم بالحفاوة التقليدية التي ورثناها، نحن وأنتم، عن إبراهيم أبينا جميعا، ومن جهتي سأكون مستعداً طبعا لزيارة القاهرة من أجل الغاية نفسها: لا حرب بعد اليوم، بل السلام، السلام الحقيقي، وإلى الأبد».
وفي القدس لم يكن أحد ليصدق ذلك فعلا، ولكن في 14 نوفمبر بثت محطة «سي. بي. إس» التلفزيونية الأميركية مقابلة مزدوجة مع السادات وبيغن أجراها من نيويورك صحافيها الشهير والتر كرونكايت الذي سأل الرئيس المصري في البداية عما إذا كان مستعدا حقا لزيارة إسرائيل فأجابه: «أنتظر دعوة رسمية»، وحين سئل عن كيفية إيصال الدعوة اليه، ولا علاقات دبلوماسية بين البلدين، أجاب الرئيس المصري: «لماذا لا يتم ذلك بواسطة الأميركيين، أصدقائنا المشتركين؟»
ويوم الخميس 17 نوفمبر تأكد ما لم يكن ليرد في ذهن أحد، فقد أبلغ بيغين وسائل الإعلام بأن السادات سيصل بعد يومين، بين السابعة والنصف والثامنة مساء، بعد انتهاء السبت اليهودي، وفي اليوم التالي أوقفت حركة الملاحة الجوية مدة ساعة، وللمرة الأولى حطت طائرة مصرية على الأرض الإسرائيلية، وكان على متنها الوزير المصري لشؤون الرئاسة، ومسؤول المراسم، وحاجب السادات، ومساعده وطاهيه الخاص، ورجال أمن واختصاصيو اتصالات وعدد من أمناء السر والموظفين، ونزل الجميع في «فندق الملك داوود» في القدس، حيث حجزت مئة غرفة.
وما كاد السادات يستقر في جناحه، في الطابق السادس من الفندق حتى كان له لقاء برئيس الوزراء الإسرائيلي، على انفراد دام ساعة، كانت نقاط عدة تجمع بين الرجلين: فكلاهما قومي شرس ولم يترددا في صباهما في قتال المحتل البريطاني بالوسائل كافة، ولاحقا لم يكن أي منهما يتخيل أنه سيصل الى قمة الحكم في بلده.
وصباح 20 نوفمبر 1977 ذهب السادات للصلاة في المسجد الأقصى، ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، بعد ذلك كان عليه زيارة «ياد فاشيم»، بناء على رغبة مناحيم بيغين، ولدى دخوله النصب التذكاري المخصص لضحايا المحرقة اليهودية الستة ملايين، رفض السادات القلنسوة اليهودية التي قدمت اليه، وهناك جلس أنور على مقاعد الشخصيات وألقى خطابه بالعربية.
نجم عالمي
وعاد السادات إلى مصر عودة الظافرين، وتزاحمت في طريق الموكب الرئاسي حشود الجماهير لتحيي «بطل العبور» الذي أصبح «بطل السلام»، لا شك في أن السلطات قد استأجرت كعادتها حافلات وشاحنات لتأتي بأعداد كبيرة من المواطنين الى الأماكن الاستراتيجية، إلا أن الجماهير وللمرة الأولى لم تشعر بأنها مرغمة على إظهار تأييدها، حتى إنه كان على السلطات منع الأشخاص الشديدي الحماسة من الدخول عنوة الى المقر الرئاسي في الجيزة.
وفي 24 ديسمبر 1977 رد إليه مناحيم بيغين الزيارة، لكن رئيس الوزراء الاسرائيلي لم يستقبل في القاهرة، بل في الإسماعيلية على ضفة قناة السويس، ومن دون مظاهر التكريم التي كان يتوقعها: فلا حرس شرف، ولا أعلام إسرائيلية، ولا عزف للنشيدين الوطنيين.
لقد ظن السادات الذي يهوى الحركات الاستعراضية أن بيغين سيأتي الى الاسماعيلية بقرار مغر قادر على تهدئة مخاوف العرب، ولكن كل طرف تمسك بمواقفه، فتعذرت إذاعة بيان مشترك، واكتفيا بالإعلان في مؤتمر صحافي عن إنشاء لجنتين ثنائيتين واحدة سياسية والأخرى عسكرية.
حرب جديدة
فقد السادات الثقة بجدوى المباحثات الثنائية، واتجه ببصره الى الولايات المتحدة، وحين قام الرئيس كارتر بجولة الى الشرق الأوسط زار خلالها السادات في أسوان يوم 3 يناير، أكد له أن أصدقاء اميركا ميالون الى المبادرة المصرية، ثم التقى الرجلان في الشهر التالي في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأميركية، لمتابعة محادثاتهما والتوصل الى حل، كان مزاج السادات متقلبا.
وبفضل المساعي الحميدة التي قام بها المستشار كرايسكي، التقى السادات في 11 فبراير بفيينا شمعون بيريز، زعيم حزب العمل الإسرائيلي المعارض، حيث عبر السادات أمامه عن تذمره الشديد من تصلب بيغين، لكنه أكد له أنه سيواصل «مهمته المقدسة لأجل السلام».
 وفي فبراير 1978 اغتيل في قبرص على يد مجموعة كوماندوس فلسطينية أحد أصدقائه، وهو الروائي والصحافي يوسف السباعي الذي رافقه الى القدس، وفي أثناء تشييعه في القاهرة هتفت الحشود الغاضبة «لا فلسطين بعد اليوم!»
بعد ذلك قامت فرقة الكوماندوس باختطاف طائرة واحتجاز 12 شخصا، ففقد الرئيس المصري أعصابه وقرر التدخل، من دون نيل موافقة السلطات القبرصية، لكن العملية التي قامت بها القوات الخاصة المصرية في مطار لارنكا تحولت الى مأساة، فبالرغم من تحرير الرهائن، فقد قتل 15 عسكريا... وأعلن السادات المشتعل غضبا أنه لا يعترف بقبرص ولا برئيسها، وهو أمر لا سابقة له في العلاقات الدولية.
ارتدى قناع الديمقراطية ونشر مراسيم بقوة القوانين
في عام 1952 طالب عبدالناصر بنظام ديمقراطي وطالب السادات بالدكتاتورية، لكن عبدالناصر تحول الى شبه دكتاتور، بينما السادات بات يصور نفسه على أنه نصير الحريات، إذ تراجع بوضوح الطابع البوليسي للنظام في بداية عهده، فأطلق سراح السجناء السياسيين وأغلقت معسكرات الاعتقال، ومع ذلك فقد منح دستور1971 سلطات واسعة جدا لرئيس الجمهورية الذي لم يمتنع عن ممارستها، فكان ينشر كيفما يشاء مراسيم لها قوة القوانين.
ففي أبريل 1975 عين السادات في منصب نائب رئيس الجمهورية الفريق حسني مبارك قائد سلاح الجو، والذي كلفه عبدالناصر بإعادة القوات الجوية المصرية بعد هزيمة 1976، كان الفريق مبارك والسادات يتحدران من المحافظة نفسها، وهي «جمهورية المنوفية المتحدة»، كما يصفها الأخير مازحا، كان عمره 46 عاما، ويتمتع بميزة الانتماء الى جيل آخر، وبكونه أحد أبطال «العبور» المجيد.
في تلك الفترة نشأت ثلاثة تنظيمات سياسية مرخص لها: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي (اليسار)، برئاسة خالد محيي الدين، وهو أحد قدامى الضباط الأحرار، وحزب الأحرار الديمقراطيين الدستوري، بقيادة مصطفى كامل مراد، والحزب الرئاسي الذي سمي في البداية «مصر»، وأوكلت رئاسته الى رئيس الوزراء ممدوح سالم، ليستبدل لاحقا بالحزب الوطني الديمقراطي، الذي رأسه السادات نفسه، ثم نشأ تنظيم رابع، وهو حزب العمل الاشتراكي الذي أراده الرئيس لتكوين «معارضة بناءة».