تثير علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الإسرائيلى التساؤلات حول الأسباب الدافعة وراء مساندة أمريكا بشكل كامل ومخزٍ للاحتلال الاستيطانى على الأرض العربية، وتحاول التحليلات تفسير موقف وإصرار حكومات واشنطن - مع اختلاف انتماءاتها السياسية - «جمهوريين وديمقراطيين» على إبقاء القدس «عاصمة الكيان»، والحث الأمريكى للقيادات الصهيونية على عدم تقديم تنازلات للجانب الفلسطينى، سواء بالاعتراف بدولة على حدود 1967، أو بالانسحاب من الضفة وتفكيك المستوطنات، وصولًا إلى عدم التوقف عن جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين وغيرهم من العرب.
مؤكد، تقف المصالحُ السياسيةُ والاقتصاديةُ وراء العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، إذ ترتكز استراتيجيات واشنطن على سياسات استعمارية تستهدف سرقة الشعوب الضعيفة، ونهب ثرواتها حتى لو وصل الأمر إلى جرائم إبادة كما حدث فى العراق 2003 ومن قبله أفغانستان 2002، فضلا عن أن سجل الولايات المتحدة الإجرامى ممتلئ بما يندى له الجبين وما يصيب بالخزى والعار، أبرزها جريمة هيروشيما ونجازاكى، كذا الجرائم فى حق الشعبين الفيتنامى والصومالى، وغيرهما.
لكن العوامل الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية وأهداف الهيمنة والاستحواذ والسيطرة ليست وحدها وراء العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وإنما ثمة عوامل إيديولوجية وعقائدية، وظفت فيها رؤى توراتية ونصوصا «مجتزأة» من الكتاب المقدس، ووقفت وراء هذا التوظيف كنائسُ بروتستانتيةٌ أصوليةٌ تأثرت باليهودية، وعرفت فى الأدبيات العالمية باسم «المسيحية الصهيونية»، الأمر الذى نرصده فى هذا التقرير، موضحين كيفية استغلال اللاهوت المسيحى فى تأييد الخرافات الصهيونية عن أرض الميعاد والحق فى فلسطين، استنادًا إلى تفاسير آيات الكتاب المقدس، اعتمادًا على أسطورة «هرمجدون»، التى وردت فى الكتاب المقدس، التى تقول بأن معركة فى فلسطين وهى الإشارة الكبرى على نهاية الزمان، ولذا يلزم تجميع يهود العالم فى منطقة واحدة، يعتقد أنها «أرض المعياد» لخطوة ضرورية قبل «تنصيرهم» لعودة المسيح وإنشاء مملكته التى تستمر لألف عام، على حد المعتقد.

احتلال فلسطين تصديقا للتوراة

يعرف الباحث الدكتور يوسف الحسن «المسيحية الصهيوينة» فى كتابه «البعد الدينى فى السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى - الإسرائيلى» بأنها «مجموعة المعتقدات الصهيونية المنتشرة بين مسيحيين، بخاصة بين قيادات وأتباع كنائس بروتستانتية، تهدف إلى تأييد قيام دولة يهودية فى فلسطين بوصفها حقاً تاريخياً ودينياً لليهود، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر باعتبار أن عودة اليهود إلى الأرض الموعودة - فلسطين - هى برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمان وعودة المسيح ثانية، وحجر الزاوية فى الدعم الشديد لهؤلاء المسيحيين لإسرائيل هو الصلة بين «دولة إسرائيل» المعاصرة وإسرائيل التوراة، لذلك أُطلق على هذه الاتجاهات الصهيونية فى الحركة الأصولية اسم الصهيونية المسيحية».
وبشأن المصطلح الصادم، الذى يجمع بين الديانة المتسامحة «المسيحية» والإيدويوجيا العنصرية «الصهيونية»، يقول الأب ديفيد نويهاوس اليسوعى فى ندوة عقدت فى كنيسة السريان الأرثوذكس فى العاصمة الأردنية عمان شهر مايو الماضى، «المصطلح حديث نسبيًا، لكنه يشير إلى نوع من الفكر المسيحى الذى هو أقدم من الصهيونية، ويمكن أن يوجد خاصة فى عدة كنائس غير تقليدية، بالتحديد فى المناطق الأنجلوسكسونية «أمريكا وبريطانيا» والعالم الأوروبى الشمالى «هولندا وإسكندنافيا»، وانتشرت فى القرن التاسع عشر، وبينما تطورت الصهيونية بشكلها العام كأيديولوجية سياسية اجتماعية فى الأساس، فإن المسيحية الصهيونية هى أيديولوجية دينية بحتة».
ويوضح المفكر العراقى فاضل الربيعى، فى حوار سابق له، أن الأمة الأمريكية، التى تمثل الآن أمة كبيرة، هى مجموعة مهاجرين من الأوروبيين والأفارقة والآسيويين وغيرهم الذين عبروا الأطلسى، ولا تجمعهم لغة واحدة، ولكن تم تشكيل الأمة عبر توحيد اللغة، فانتصرت الإنجليزية على كل الأسر المهاجرة، ليتوحد الوجدان اللغوى فى لغة واحدة، والعامل الثانى، هو إنشاء سردية تاريخية تربط هذه الأقوام، التى اعتمدت على قصص التوراة، وبالتالى أصبحت إسرائيل جزءًا من الوجدان الأمريكى، وهو ما يفسر لنا حماسة كل الأمريكيين لإسرائيل، مشددًا على أن إسرائيل موجود فى وجدان كل الأقوام «الأمريكية» التى شكلت أمريكا، فالتركيبة السكانية الأمريكية نفس التركيبة السكانية الإسرائيلية.

رؤساء أمريكا.. جنود إسرائيل

تتعدد أسماء ومصطلحات «المسيحية الصهيونية»، منها: الأُصولية اليمينية، والألفية التدبيرية، والإنجيلية المتشددة، ويتبعها كنائس وفرق عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، أبرزها شهود يهوا، والطائفة البيوريتانية، والحركة المونتانية، ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية من أجل إسرائيل، وفرقة المجيئيين، والسبتيون، والخمسينية، ومؤسسة جبل المعبد، والميثوديست «الميثودية»، جماعة ميجا، فرسان الهيكل «المعبد»، واللوبى اليهودى الصهيونى، والمائدة المستديرة الدينية، والرابطة الأممية لمكافحة العنصرية، والائتلاف الأمريكى للقيم الأخلاقية، والحركة المونتانية التى ترجع إلى الكاهن مونتانوس الذى أعلن عن معمدونيته، مدعيًا أنه صوت الروح القدس، وحصوله تدبيرًا خاصًا، وتنبأ برجوع المسيح إلى الأرض خلال وقت قريب.
وتتعد أيضا الشخصيات العامة الدينية والسياسية الداعمة أو المتبنية للرؤية المسيحية الصهيونية، فى مقدمتهم القس جون مكدونالد، الذى طالما ردد «يا سفراء أمريكا انهضوا، واستعدوا لإسماع بشرى السعادة والخلاص لأبناء شعب منقذكم، الذين يعانون من الظلم، أرسلوا أبناءهم واستخدموا أموالهم فى سبيل تحقيق الرسالة الإلهية»، قاصدًا نبوءة النبى يشعياهو، بعودة اليهود!
وتؤمن الشخصيات السياسية الصهيونية فى الولايات المتحدة، أنها تساعد الله فى مخططاته التوراتية الإنجيلية المقررة سلفاً لنهاية العالم!، كما ينتمى أغلبهم إلى «الطائفة التدبيرية»، التى ترى أن كل شىء من تدبير الله ومقدر سلفًا، وما على الإنسان إلا السعى لتنفيذ هذا المقدور، وأشهر قساوستها جيرى فولويل، وجيمى سواجارت، والقس الشهر بات روبرتسون، وجيمبيكر، وأورال روبرتس، كنيت كوبلاند، وريكس همبرد.
ويعتقد السياسيون الأمريكيون المتصهينون أن المسيح يأخذ بأيدهم، وأنهم يقودون معركة هرمجدون، التى ستقع فى منطقة الشرق الأوسط!! ويصرح كثيرون منهم بالسبب الدينى لدعم إسرائيل، الأمر الذى سبق أن ردده مثلا الرئيس الأمريكى ليندون جونسون «1963 - 1973»، قائلًا أمام جمعية «أبناء العهد»: «إننى مستعد للدفاع عن إسرائيل تماماً كما يدافع جنودنا عن فيتنام. وإن بعضكم، إن لم يكن كلكم، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلى تمامًا، لأن إيمانى المسيحى ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة فى ذاكرتى، تماماً مثل قصص الكفاح البطولى ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد».
ويرى كثير من الباحثين أن عددًا من رؤساء الولايات المتحدة ينتمون عقائديًا وإيديولوجيًا إلى المسيحية الصهيونية، من بينهم: وودرو ويلسون «1913 - 1921»، وهارى ترومان «1945 - 1953» صاحب جريمة القنبلة النووية، ودوايت أيزنهاور «1953 - 1961»، وليندون جونسون «1963 - 1973»، وريتشارد نيكسون «1969 - 1974»، جيمى كارتر «1977 - 1981»، رونالد ريجان «1981 - 1988»، وعائلة بوش الأب والابن، وكذلك وزير الخارجية الأمريكى الحالى جون كيرى، اليهودى الأصل، الذى كان يعد المكافح الأول عن أمن إسرائيل خلال العشرين عام التى قضاها فى مجلس الشيوخ الأمريكى، وأكد مرارًا أنه لن يتنازل عن حق إسرائيل فى العيش الآمن، وكتبت عنه جريدة جيروزلم بوست الصهيونية، أنه يظهر كل المعايير والاستطلاعات دعمًا مطلقًا للكيان.

دعم إسرائيل ليس اختيارًا

تختلط المرامى والأهداف التى يسعى إليها «المسيحيون الصهاينة» بين دينية وسياسية، تتمثل الأخيرة فى استمرار السياسات الاستعمارية ونهب ثروات الشرق وإبقاء الدول العربية دومًا تحت نيران المشكلات السياسية والعسكرية، واستنزاف طاقاتها فى معارك بدلًا من التفرغ لبناء ذاتها، ودينيًا تعمل على تثبيت شرعية الكيان الإسرائيلى على أساس أنه تحقيق للنبوءات التوراتية، ودعم إعادة بناء الهيكل، والتعجيل بعودة المسيح!!
وتتفق الصهيونية مع اليمين الأمريكى فى عدد من التقاطعات، منها: «أن كل مسيحى يجب أن يؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وأن قيام إسرائيل واحتلال القدس هما إشارتان إلهيتان بقرب العودة الثانية للمسيح، وبناءً على ذلك، فإن جميع أشكال الدعم لإسرائيل ليس أمرًا اختيارًا، وإنما قضاء إلهى لأنه يؤيد ويُسرع قدوم المسيح، وبالتالى فإن كل من يقف ضد إسرائيل يعتبر عدوًا للمسيحية وعدوا لله بالذات».
وشهدت أوروبا فى القرن التاسع عشر بعثًا تبشيريًا متمثلاً بالحركة الإنجيلية البروتستانتية الأصولية تنادى بأن اليهود هم «مفتاح الخطة الإلهية للعودة الثانية للمسيح المنقذ» الذى أدى إلى تهيئة الجو لولادة الصهيونية اليهودية فى أواخر القرن التاسع عشر، وكانت قناعات إقامة دولة لليهود فى فلسطين نتيجة أُطروحات تلمودية فرضت نفسها على المسيحية الغربية حول «شعب الله المختار، وحقه فى أرض الميعاد، وتحقيق النبوءة التوراتية بتجميع اليهود فى دولة إسرائيل بفلسطين - إذاً فهى أيضاً - حركة الاسترجاع المسيحى»، على النحو الذى يذكره عبدالوهاب المسيرى فى «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية».
ومع وصول جيمى كارتر إلى رئاسة البيت الأبيض يناير 1977، أعلن ولادته كمسيحى من جديد، وصرح بموقفه الدينى الداعم لوجود إسرائيل، كما استفاد اليمين سياسيًا كثيرًا خلال فترة رونالد ريجان 1981 - 1989؛ حيث وصل اليمين المسيحى والمتحالف مع الصهيونية بشكل مباشر إلى مقاليد التحكم فى البيت الأبيض، وبدت نهاية السبعينيات سنوات النجاح لليمين الدينى، حيث ظهرت تحالفات مختلفة منها الأكثرية الأخلاقية وسيطرة المتشددين البروتستانت على الحياة السياسية والاجتماعية، واعتبرت مجلة النيوز وييك عام 1976 «سنة الإنجيليين»، وفق ما نشرت أدبيات عدة.
وتزامن مع صعود اليمين المسيحى، تولى مناحم بيجن رئاسة وزراء الكيان الصهيونى 1977، وعقد تحالفات مع قيادات الأصولية المسيحية بأمريكا، ونمو مضطرد فى التطرف «اليهودى» وممارسة العنف الصهيونى المشرعن بنصوص توراتية، الأمر الذى ساهم كثيرًا فى زيادة أتباع المذاهب الصهيونية.
وتعتمد «المسيحية الصهيونية» حسبما يؤكد الأب ديفيد نويهاوس على على ثلاث دعائم عقائدية، أولها أن ما يميزها هو نظرة كتابية إلى العالم، أى تعتمد على الكتاب المقدس وتفسيراته الحرفية، ثانيًا: دعم فكرة أننا على حافة نهاية الزمان وأن عودة المسيح أوشكت، وتشير أحداث العالم اليوم إلى سيناريو نهاية هذا الزمان، ثالثًا: ترتكز فى قلب نهاية الزمان على الشعب اليهودى ودولة إسرائيل؛ لأن الوعود المقدمة إلى الكنيسة فى نهاية الزمان والمتعلقة بالاعتراف الشامل بالمسيح كإله ومخلص، يجب أن يسبقه الإيفاء بوعود العهد القديم لإسرائيل. وتتضمن هذه الوعود عودة اليهود إلى وطنهم وتأسيس دولة يهودية وبناء الهيكل الثالث، وهذا كله يدعو إلى شبوب حرب نهاية الزمان التى يجب إن تسبق عودة المسيح الثانية، على حد معتقداتهم!

كنائس المشرق تتبرأ من «الصهيونية المسيحية»

تتخذ الكنائس الشرقية موقفًا صارمًا تجاه المسيحية الصهيونية، بوصفها «سوء استعمال للكتاب المقدس وتلاعبا بمشاعر المسيحيين فى محاولة لتقديس إنشاء دولة من الدول وتسويغ سياسات حكوماتها»، حد نص بيان مجلس كنائس الشرق الأوسط الصادر فى 1986، رفضا لنشاط المسيحية الصهيونية، وردًا على المؤتمر الصهيونى المسيحى العالمى الأول المنعقد بين 27 - 29 آب اغطس 1985 فى مدينة بازل بسويسرا.

ويشدد الأب عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية القدس، على رفض الصهيونية المسيحية معترضًا على التسمية، ويدعوها بـ«المجموعات المتصهينة التى تدعى المسيحية»، ويتخذ القس ألكس عوض، عميد كلية بيت لحم وراعى كنيسة بالقدس، مواقف راديكالية ضد المسيحيين المتصهينين، واصفًا لاهوتهم بـ«الكابوس»، حيث وصفه بأنه لاهوت صهيونى يحل اليهود محل الشعب الفلسطينى، ويظنون أن الله يباركهم على هذا، وكأن الفلسطينيين لا يسيرون بحسب خطة الله! كما أنهم يعتقدون أن اليهود هم عيون الله على الأرض، وأن الله أعطى الأرض لإسرائيل، ويساعدون الكيان بالرغم من جرائمه، كما يشجعون الفلسطينيين على ألا يعودوا إلى أرضهم، ويمنعوهم من التكلم عن ضحاياهم، مطالبين أمريكا بأن تضغط على إسرائيل ألا تقسم القدس، وتحتلها كاملة!
وبالنسبة لموقف الكنيسة الإنجلية المصرية، فيذكر القس إكرام لمعى، صراحة، فى كتابه «الاختراق الصهيونى للمسيحية»، أن المسيحية الصهيونية «حركة نشأت فى أمريكا، الغرض منها تعضيد دولة إسرائيل، وقد أخذت هذه الدعوة طابعا دينيا؛ لأنها كانت تدعى أن عودة اليهود إلى فلسطين هو تحقيق للنبوءات وإعداد لمجىء المسيح ثانية إلى العالم، وانتشرت فى داخل وسائل الإ علام وبعض الكنائس، وتبّنتها هيئات متعددة، منها هيئة سفراء المسيح».