بقلم/ عبد الرحمن عباس 
لكل قاعدة استثناء، لذلك في بعض القضايا تكون الحقائق مطمئنة أكثر من أي شيء، ورغم قلة الحالات التي تكون فيها الحقيقة كذلك إلا أنها في زمن النشر بلا ضوابط والمنشورات المضروبة على مواقع التواصل الاجتماعي تصبح النجاة.
 
بصفتي محررًا مسئولًا عن وزارة الري، كنت على مقربة من ملف سد النهضة، تحدثت أكثر من مرة مع وزراء المياه الإثويبيين والسودانيين، وأدرك جيدًا الصعوبات التي تواجهها الدولة المصرية في تلك القضية، والتي تمثل أمنا قوميا لنا، ولأن سد النهضة أصبح مصدر القلق الأكبر لدى المواطنين أصبح لزامًا توضيح بعض الحقائق، خاصة بعد عدم وصول الدول الثلاث إلى أي اتفاق خلال الجلسة العاشرة للمفاوضات التي عُقدت في الخرطوم. 
 
أُولى الحقائق هي أن المشكلة الأساسية ليست في بناء السد أو كمية المياه التي سيتم تخزينها، 74 مليار متر مكعب، لأنها مشكلات تم تخطيها باعتراف مصر بشرعية السد كمشروع تنمية "وفقًا لاتفاقية المبادئ التي عقدت في الخرطوم"، بجانب أن المفاوضات والدراسات الاستشارية تدور حول كيفية ملء تلك المياه وقواعد التخزين، والمقصود ببساطة بعد إعداد الدراسات هو تحديد هل يتم الملء على ثلاث سنوات مثلًا أم خمس سنوات بما لا يؤثر بضرر بالغ على مصر.
 
ثانيا: لسد النهضة آثاره السلبية باعترافات المسئولين، لكنه ضرر تدريجي، بمعنى أنه بعد سنوات ملء الخزان سيعود الأمر كما هو، أما الحصة المائية التاريخية لمصر فلن تتأثر بملء السد، إلا خلال فترة التخزين، وستكون له توابعه في الزراعة والكهرباء.
 
ثالثا: دخلت مصر تلك المفاوضات بعد "خراب مالطة" وبناء أكثر من 20% من السد، بجانب دعم أفريقي لإثيوبيا، مما دفع الرئيس السيسي، وفقًا لدراسة أعدها المعهد الألماني للدراسات الأمنية، إلى تفضيل سياسة المواءمة، وأن يضمن حصة مصر التاريخية التي ثار اللغط عليها خلال الفترة الماضية في مقابل بناء السد، أي اختيار الضرر الأقل بدلًا من الضرر الأقوى، وهو تطبيق اتفاقية "عنتيبي"، التي وافقت عليها 5 دول أفريقية حتى الآن. 
 
رابعا: بداية من سبعينيات القرن الماضي، يتحمل كل المسئولين في الدولة، بداية من الرئيس ووصولًا لوزراء الري، ضياع أفريقيا والتخلي عنها، أما بعد الثورة فمطلوب محاكمة كل من تسبب في ذلك. 
 
خامسا: ضرر السد لن يؤدي إلى جفاف نهر النيل كما يروج البعض، لكنه سيؤثر بالطبع، مما تحاول وزارة الري الآن تفاديه، من خلال الاعتماد على المياه الجوفية وتحويل الري بالغمر إلى الري بالتنقيط، كما يحدث الآن في الوادي الجديد، وهي وسائل غير كافية، لكنها قد تنفع خلال السنوات العجاف. 
 
سادسا: من يعطي أملًا كبيرًا على التحكيم الدولي يعيش في وهم، ومن يتصور أن إثيوبيا غير مستعدة لهذا السيناريو هو واهم أكثر، خاصة أنها تملك كافة الأوراق، وأولها اعتراف شرعي بأن هذا مشروع للتنمية، (راجع اتفاقية الخرطوم أحد كوارث المفاوضات).
 
سابعا: كثرة لهجة الضرب العسكري للسد خلال الفترة الأخيرة، لغة عنترية من بعض الأشخاص الذي يجهلون الحقيقة، أما بعضهم فيعلمها لكنه يتعمد ذلك، وفكرة ضرب السد عسكريًا ناهيك عن أن سياسة مصر لا تنتهج تلك الفكرة من الأساس، لكن واقعيًا فإن الأمر يحتاج إلى ترتيبات مع دول أخرى لا توافقك الرأي، إن لم تكن متواطئة مع إثيوبيا نفسها.
 
بعد تلك الأمور، يجب أن تكون الصورة واضحة.. السد سيكون له أضرار سلبية، لكن لن يتسبب في جفاف النيل، الري ليست المسئول الوحيد، السيسي تعامل مع المشكلة بسياسة الأمر الواقع، الضربة العسكرية لا تفلح والتحكيم الدولي "وهم"، أثر السد تدريجي، ويجب محاكمة جميع من فرَّط حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.