وبعد أن انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وضع خطة الهجرة وآلياتها مع صديقه الصديق رضي الله عنه، استقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليُكَلِّفه بعدَّة مهامَّ في غاية الأهمية، ويبرز منها ثلاث كلها خطير!
دور علي بن أبي طالب في الهجرة
أما المهمَّة الأولى: فهي القيام بدور التمويه على قريش حتى يتمَّ تعطيلها بضع ساعات، فلا تُلاحق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فور خروجه من مكة، وكان هذا عن طريق نوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغطيته ببردته؛ بحيث إذا نظر الكفار من شقِّ الباب حسبوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال نائمًا، فينتظرون خروجه في الصباح، فيمر وقت يتيح له صلى الله عليه وسلم الوصول إلى غار ثور دون مراقبة.
وأمَّا المهمَّة الثانية: فهي ردُّ الودائع إلى أهل مكة، وهي مهمَّة خطيرة؛ حيث إن هذه الودائع الثمينة أمانة في حوزة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد قضاءها على الوجه الأكمل.
وأما المهمَّة الثالثة: فهي مهمَّة عجيبة، وهي كسر صنم كبير من أصنام قريش لإيصال رسالة شديدة ومباشرة إلى أهل مكة!
ولنا مع كل مهمَّة من هذه المهامِّ الخطيرة وقفات..
أمَّا المهمَّة الأولى فهي تضحية كبيرة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه
لأن الكفار سيكونون في حالة عصبية ثائرة عندما يكتشفون الخدعة في الصباح، وقد يتهوَّرون ويفعلون مع عليٍّ رضي الله عنه ما كانوا سيفعلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرَّق دمه بين القبائل، والتهمة الموجهة إليه بوضوح هي التستُّر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع فرصة قتله على قيادة مكة؛ فقيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه المهمَّة يُعَدُّ عملية استشهادية قد يلحق فيها بشهداء مكة سمية وياسر رضي الله عنهما، وهي دليل على شجاعة مفرطة من البطل العظيم.
كما أن لنا تعليقًا آخر على هذه المهمَّة، وهي ملاحظة اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الجزء من الخطة على أخلاقيات المجتمع المكي، ولو كان جاهليًّا، فكفار مكة لن يُداهموا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتله في فراشه، إنما سينتظرون إلى الصباح عندما يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم لأعماله، وسنرى أن ظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محلِّه، وسيبقى الكفار خارج البيت إلى الصباح! إنها أخلاقيات إنسانية غابت عن البشرية على مرور الأزمان!
وأمَّا المهمَّة الثانية: وهي مهمَّة ردِّ الودائع، فتحتاج إلى وقفة خاصَّة جدًّا!
إننا كثيرًا ما "نسمع" عن الوفاء في مواثيق الأمم المختلفة وعهودها؛ ولكنَّ قليلاً -وقليلاً جدًّا- ما "نرى" هذا الوفاء فعليًّا على أرض الواقع. ولقد كان الوفاء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية من آيات نبوَّته!
لقد ظهر هذا الوفاء في كل تعاملاته مع أعدائه، وما أروع وأوفى موقفه هذا مع أهل مكة يوم غادرها مهاجرًا إلى المدينة! ليُعلن للجميع أن الوفاء هو منهج هذا الدين الجديد؛ لقد كان أهل مكة لا يثقون بأحد ثقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانوا يحتفظون عنده بأموالهم وودائعهم، ولا غرو، فهو الصادق الأمين، وحتى بعد أن اشتدَّ الإيذاء به صلى الله عليه وسلم، وحتى بعد أن وصفوه بالساحر والكذَّاب والكاهن والشاعر وغير ذلك من الصفات؛ كانوا لا يزالون يُحافظون على عادتهم بحفظ الأموال عنده! وكان هو صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من أداء هذا الدور حتى مع حربهم له.
ثمَّ كانت الهجرة إلى المدينة، وكان تركُ الديار والأموال والأعمال، وكان الظلم والتشريد والتنكيل، وكان تجاوز الحدود وانهيار الأخلاق.. ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجربة أليمة، وهي ترك أحبِّ بلاد الله إلى قلبه، وعلى الرغم من كل هذه الآلام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على العدل إلى أقصى درجة ممكنة؛ فترك الودائع والأموال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره أن يردَّها إلى أهلها، وأقام عليٌّ رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده.
وما أحسب أن أحدًا في الأرض أتى بمثل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال الوفاء والعدل، ومن خصال الخير والفضل! فأيُّ إنسانٍ مكانه قد يجد ألف تأويل ليُبَرِّر لنفسه أن يأخذ هذه الأموال، ولا يردَّها إلى أهلها.
قد يُبَرِّر ذلك بأنهم سرقوا أمواله وأموال المسلمين، وصادروا داره وديار المسلمين، فهذا في مقابل ذلك، وقد يُبَرِّر ذلك بأنهم أكرهوه على الخروج، ولم يخرج بإرادته، وقد يُبَرِّر ذلك بأنهم خَطَّطُوا لقتله، وكانوا جادِّين في هذا التخطيط إلى درجة أنه أفلت منهم بمعجزة حقيقية في اللحظة الأخيرة قبل نجاح خُطَّتهم الآثمة، وقد يُبَرِّر ذلك بأنه سيأخذ الأموال لتنتفع بها الدعوة الإسلامية؛ خاصةً وهي في أوائل أيامها في المدينة، وقد يُبَرِّر ذلك بأسباب أخرى كثيرة تخطر على بال العديد من الناس.
نعم هناك مبرِّرات كثيرة لفعل ما تُريد؛ ولكن عندما تأتي إلى الحقيقة، وتتجرَّد من أي ميول شخصية، أو أهواء ذاتية، تُدرك -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- أن كل هذه المبرِّرات غير مقبولة، وأن الحقَّ أبلج واضح، وأن تطبيق الوفاء يحتاج إلى نفوس خاصَّةٍ، وعزائم من طراز فريد.
إن هؤلاء المشركين الذين وضعوا أموالهم عنده صلى الله عليه وسلم قد وضعوها بناء على اتفاق بينهم وبينه بحفظ الأمانة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بموجب هذا الاتفاق أحرص عليهم وعلى أموالهم من آبائهم وأمهاتهم، فهو لا يخون مهما كانت الظروف، ولا يغدر مهما تعرَّض لإيذاء، والوفاء والعدل يقتضيان ألا يؤاخَذَ أولئك الذين وثقوا فيه -ولو كانوا كفارًا- بجريرة أولئك الذين حاولوا -وما زالوا يحاولون- أن يقتلوه.. إنهم مشغولون بمطاردته لقتله، وهو مشغولٌ بردِّ ودائعهم إليهم!
لقد كانوا في قمَّة الغدر، وكان هو في قمَّة الوفاء!
إنهم مشركون، وإنه لرسول ربِّ العالمين!
والفارق بينهم وبينه أبعد من الفارق بين السماء والأرض!
والجميل في الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل كل ذلك دون تَكَلُّفٍ ولا تَفَضُّل.. فهو لا يطير بهذا الموقف في الآفاق ليتحدَّث عن نفسه كيف فعل وفعل، وهو لا يأمر أصحابه من الشعراء والأدباء أن يُسهبوا في الحديث عن مواقفه وأعماله؛ لقد كان يُغْفِلُ كلَّ ذلك لأن الله تعالى أمره بكلِّ خُلُقٍ كريمٍ، فهو متجرِّدُ النية لله عز وجل، مخلص العمل له سبحانه، لا يرجو من عباد الله جزاءً ولا شكورًا؛ قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].
وأمَّا المهمَّة الثالثة: فهي مهمَّة تكسير صنم كبير من أصنام قريش
ولنعرف قصة ذلك أولاً ثم نُعَلِّق عليها، قال عَلِيُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةَ الَّتِي أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا، انْطَلَقَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الأَصْنَامِ، فَقَالَ: "اجْلِسْ". فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: "انْهَضْ". فَنَهَضْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى ضَعْفِي تَحْتَهُ، قَالَ: "اجْلِسْ". فَجَلَسْتُ، فَأَنْزَلْتُهُ عَنِّي، وَجَلَسَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عَلِيُّ؛ اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبِي". فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ نَهَضَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ نِلْتُ السَّمَاءَ، وَصَعِدْتُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَتَنَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَلْقَيْتُ صَنَمَهُمُ الأَكْبَرَ، وَكَانَ مِنْ نُحَاسٍ مَوَتَّدًا بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ إِلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَالِجْهُ". فَعَالَجْتُهُ فَمَا زِلْتُ أُعَالِجُهُ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيهْ إِيهْ". فَلَمْ أَزَلْ أُعَالِجُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: "دُقَّهُ". فَدَقَقْتُهُ فَكَسَرْتُهُ وَنَزَلْتُ.
هذا الحدث العجيب من أحداث السيرة يحتاج منَّا إلى وقفة ..
لقد تجنَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم طَوَال فترة مكة أن يكسر أيًّا من أصنام قريش؛ وذلك لتجنُّب صدام محقَّق مع أهل مكة؛ لأنه مأمور بالكفِّ عن القتال، وبالتالي كان يتجنَّب بكلِّ طاقته كلَّ ما يقود إلى هذا القتال، ولم يفعل كما فعل جدُّه أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مسألة تكسير الأصنام؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فردًا يحاول أن يزرع معنًى معيَّنًا في نفوس قومه؛ بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدًا لجماعة يُحاول أن يصل بها كلها إلى برِّ الأمان؛ أما الآن وقد هاجر المسلمون جميعًا، ولم يبقَ إلا هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعليٌّ رضي الله عنهما، وسيكون رحيلهم بعد سويعات قليلة؛ فقد أراد أن يوصل رسالة قوية إلى أهل مكة بكسر صنمهم الأكبر الذي يُعَظِّمُونه.
أحد بنود هذه الرسالة أن المرحلة السابقة -وهي مرحلة مكة المكرمة- قد انتهت، وستبدأ مرحلة جديدة في المدينة، وسيكون الصدام مع الشرك أحد أكبر معالمها، وهذه هي أولى إرهاصات الصدام!
إننا كسرنا هذا الصنم لنقول لكم: إننا لا نخاف الآن من عواقب هذا الفعل؛ بل ندعوكم للقدوم إلى المدينة والقتال إذا أردتم؛ فقد صارت لنا قوَّة وبأس.
وواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مطمئنًا تمامًا إلى قوَّة الأنصار وإيمانهم، ويعلم أن تهييج قريش بهذا العمل لن يجرَّ الويلات على المدينة؛ بل على العكس، سيفتح المجال للمسلمين لاسترداد ما سُلِب منهم على مدار السنين.
كما أن أحد بنود الرسالة كذلك هو لفت نظر أهل مكة إلى أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضرُّ، ولا تستطيع أن تُدافع عن نفسها فضلاً عن غيرها، وها هو الصنم الكبير يُهَان ويُكْسَر، ولا يستطيع أن يكشف ملابسات ما حدث معه لأحد، فما أقبحها من أصنام، وما أقبح العقول التي رَضِيَتْ أن تعبد مثل هذه الأحجار.
كان هذا هو دور علي بن أبي طالب في عملية الهجرة، وهو دور مُرَكَّب كما رأينا.
مفاجأة
بعد أن كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صنم قريش، ذهبا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بالودائع وأصحابها، ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج قبل أن تأتي قريش؛ ولكن كانت المفاجأة! لقد قَدِمَ أهل مكة مبكِّرين، وحاصروا البيت النبوي، وصرنا على أبواب أزمة كبيرة!
فماذا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم؟!