جاء الإسلام بتشريعات عظيمة حمت الإنسان، وحفظته، وكفلت له حق الحياة الكريمة، والحرية التامة التي على أساسها كان تكليفه، وبها منح حق الاختيار في كسبه المترتب عليه الجزاء، فكانت الشريعة الإسلامية سياجًا منيعًا، وحصنًا حصينًا للإنسان، ومن القواعد المقررة شرعًا أن المحافظة على النفس إحدى الضروريات الخمس، وأن العناية بعقله، وبدنه، وماله، وعرضه، ودينه قد بلغت الشريعة فيها غايتها، ولقد قرّر الأصوليون ذلك في كتبهم ونصوا على أن الضروريات الخمس والمقاصد الكلية المتمثلة في المحافظة على النفس، والدين، والعرض، والعقل - وإنْ غاير بعضهم فقال المحافظة على النسب بدلاً من العرض - بل إن تكاليف الشريعة كلها ترجع في وضعها إلى حفظ مقاصدها، وهذه المقاصد تتنوع حسب أهميتها بالنسبة للمكلف، وهي ثلاثة أقسام : ضروري، وحاجي، وتحسيني. وجميعها تتعلق ببيان مدى اهتمام الشارع في وضعه للشريعة بالنسبة لهذا الإنسان المكرم المكلّف، وإن رمت دليلاً على ذلك فاقرأ هذا النّص الجامع للعلامة أبي إسحاق الشاطبي في الموافقات وذلك حيث يقول - عليه الرحمة - عند كلامه عن النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة «وفيه مسائل : المسألة الأولى : التكاليف الشرعية ومقاصدها: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام :

أحدها: أن تكون ضرورية.

والثاني: أن تكون حاجية.

والثالث: أن تكون تحسينية.

فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ، وتهارج، وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.

والحفظ لها يكون بأمرين :

أحدهما : ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود(1).

والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.

فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان(2). والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضًا(3) كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك، والمعاملات(4) راجعة إلى حفظ النسل والمال من  جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضًا لكن بواسطة العادات، والجنايات -  ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم.

والعبادات والعادات قد مُثلِّت، والمعاملات ما كان راجعًا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع، والجنايات ما كان عائدًا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى تلك المصالح كالقصاص، والدّيات للنفس، والحد للعقل، وتضمين(5) قيم الأموال للنسل، والقطع والتضمين للمال، وما أشبه ذلك.

ومجموع الضروريات خمسة وهي(6): حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة(7) .

وأما الحاجيات فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات.

ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلاً ومشربًا وملبسًا، ومسكنًا، ومركبًا، وما أشبه ذلك، وفي المعاملات كالقراض(8)،والمساقاة، والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر، وفي الجنايات كالحكم بالقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصُنّاع وما أشبه ذلك.

وأما التحسينات فمعناها : الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليَان.

ففي العبادات كإزالة النجاسة - وبالجملة الطهارات كلها- وستر العورة وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات، والقربات، وأشباه ذلك، وفي العادات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات.

وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير، وما أشبهها .

وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية، والحاجية، إذ ليس فقدانها بمُخلٍّ بأمر ضروري، ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين». اهـ(9)  .

بهذا الذي سقته لك  أيها القارئ الكريم  من كلام الأصولي الحاذق والمحقق المدقق يتبين لك: «أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيًا عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود  أعني ما هو خاص بالمكلفين والمكلّف-.

وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك، فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عُدِم المكلف لعُدِم من يتدين، ولو عُدِم العقل لارتفع التدين، ولو عُدِم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عُدِم المال لم يبق عيش  وأعني بالمال ما يقع عليه الملك، ويستند به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتحولات، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا، وأنها زاد للآخرة.

وإذا ثبت هذا فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى، إذْ هي تتردد على الضروريات تكمّلها، بحيث ترتفع في القيام بها، واكتسابها المشقات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجهٍ لا يميل إلى إفراطٍ ولا تفريط.

وذلك مثل ما تقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض، حتى يجوز له الصلاة قاعدًا ومضطجعًا، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته وكذلك ترك المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وغير ذلك فإذا فهم هذا لم يَرْتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية.

وهكذا الحكم في التحسينية؛ لأنها تكمل ما هو حاجي أوْ ضروري، فإذا كملت ما هو ضرورة فظاهر، وإذا كملت ما هو حاجي فالحاجي مكمل للضروري، والمكمِّل للمكمِّل مكمِّل، فالتحسينية إذًا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه. اهـ(10)

إن العناية التي يقررها الإسلام للنفس الإنسانية ليست عناية مفردة، ولكنها عناية تقوم على دعائم ثلاث: عناية هي عصمة وحماية، وعناية هي عزة وسيادة، وعناية هي استحقاق وجدارة، عناية يستغلها الإنسان من طبيعته المكرّمة : (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء: 70).

وعناية تتغذى من عقيدته وتُسْتمد من عبوديته لربه: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقون: 8)

وعناية يستوجبها بعمله وسيرته، وأخلاقه وسلوكه، وأدبه وتربيته:(ولكل درجات مما عملوا) (الأنعام: 132) (ويؤت كل ذي فضل فضله). (هود: 3)

وأوسع العنايات وأعمها وأقدمها وأدومها هي العناية الأولى التي ينالها الإنسان من طبيعته منذ ولادته، بل منذ تكوينه جنينًا في بطن أمه ...

عناية لم يؤد لها ثمنًا ماديًا، ولا معنويًا، ولكنها منحة الرحمن، وعطاء المنان : (الذي أعطى كل شيء خلقه)(طه: 50)

ومنحته التي منحته فطرته : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30)

والتي جعلت كرامته وإنسانيته صنويْن مقترنين في شريعة الإسلام(11) .

ولما كان للنفس البشرية قدر عظيم عند الله تعالى، فإنه ـ سبحانه ـ شرع لها ما يحفظها وتُصان به حياتها كما تجلى لك، ومن ثمّ فإنه يحسن بنا أن نتناول هذه القضية من نواحٍ عدة:

الناحية الأولى: قيمة النفس البشرية عند الله تعالى.

الناحية الثانية: بيان أنّ المحافظة عليها مقصد عظيم من أهم مقاصد الشريعة.

الناحية الثالثة : حرمة الاعتداء عليها، وبيان عقوبة المعتدي.

وهذا ما سنبين فيه للقارئ الكريم ما قررّه الإسلام إزاء الإنسان ومدى حرص تشريعاته السديدة في المحافظة على قيمته وكرامته، وصون حياته، والنهي عن الاعتداء عليها، وعدم المساس بها، وتشريع العقوبات الرادعة لحمايتها، كل هذا في إطار عرض تطبيق مبادئ الإسلام السمحة إزاء هذا المخلوق الكريم دونما نظر إلى لون أو جنس أوْ دين.  وبالله التوفيق ؛؛

الهوامش:

  1. مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، وأما مراعاتها من جانب العدم فتكون بترك ما به تنعدم الجنايات ، فلا يقال: إنّ مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلاً هو مراعاة لها من جانب العدم؛ إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيًا أوْ لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضًا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى. اهـ محققه .
  2. قال في التحرير وشرحه: حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد، وعقوبة الداعي إلى البدع، ويقول الحنفية: إن وجوب الجهاد ليس لمجرد الكفر بل لكونهم حربًا، ولذلك لا يحارب الذمي، والمستأمن، ولا تقتل المرأة والراهب، وقبلت الجزية، وهذا لا ينافي أنه لحفظ الدين: إذ حفظ الدين لا يتم مع حربهم المفضي إلى قتل المسلم أوْ فتنته عن دينه اهـ.
  3. أي أصل تناول الغذاء الذي يتوقف عليه بقاء الحياة والعقل، وسيأتي في الحاجيات التمتع بالطيبات من مأكل وملبس إلخ، أي مما يكون تركه غير مخل بالنفس والعقل، ولكنه يؤدي إلى الضيق والحرج فالفرق بين المقامين واضح. اهـ.
  4. أي المقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال فهي بهذا المقدار من الضروري وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضرورة، أما مطلق البيع مثلاً فليس من الضروري بل من الحاجي خلافًا لإمام الحرمين الجويني. اهـ.
  5. الذي قاله غيره أن حفظ النسل شرع له حدّ الزنا جلدًا ورجمًا لأنه مؤدٍ إلى اختلاط الأنساب المؤدّي إلى انقطاع التعهد من الآباء المؤدّي إلى انقطاع النسل، وارتفاع النوع الإنساني من الوجود. اهـ .
  6. ترتيبها من العالي للنازل هكذا : الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال على خلاف في ذلك فإن  بعضهم يقدّم النفس على الدين .
  7. قال في شرح التحرير: حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء. اهـ ، فبعد هذا لا يقال إن الشوكاني تأمل التوراة والإنجيل فلم يجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقًا على أن المعروف من لسان النصارى، وقسيسيهم تحريمها عندهم، وعلى فرض صحة ما عُزِي للشوكاني – لو قيل إن الممنوع في جميع الشرائع ضياع العقل رأسًا، والخمر تذهبه وقتًا ثم يعود لكان له وجه. أما تعريض الغنائم في الأمم السابقة لحرق النار السماوية بجمعها في مكان خاص وعدم نيل شيء منها فظاهر أنه ليس من إتلاف الإنسان للمال، وكان تحريمها عليهم لحكمة تخليص نفوسهم من قصد الغنائم بالجهاد، وقد رخصّ فيها في شرعنا خاصة كما في الحديث: (ولم تحل لأحدٍ قبلي) وقصة: (فطفق مسحًا بالسوق والأعناق) ليس فيها إتلاف لها. بل إما أن يكون من باب استعراضها، وتفقد أحوالها بيده لا بالسيف كما حققه  الفخر الرازي، وإما أن يكون ذلك تقربًا إلى الله بأحب المال عنده لأكل الفقراء كما هو المشهور، أوْ  ليكون كالوسم بالنار لحبسها في سبيل الله تعالى. اهـ محققه رحمه الله.
  8. قال محققه عليه الرحمة : بل سائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ النفس وغيرها من الضروريات الخمس ...، لا ما يعطيه ظاهر أنواع الأمثلة من خصوص ما كان له أصل حظر لدخوله تحت قاعدة منع كلي، واستثنى ذلك منه حتى عُدّ رخصة بالإطلاقات الأربعة السابقة. اهـ. .
  9. الموافقات 2/ 6 - 9 .
  10. يراجع : الموافقات 2/13 ، 14.
  11. يراجع : نظرات في الإسلام أ.د/ محمد عبد الله دراز ص 106 ، ويراجع معه حقوق الإنسان في الإسلام أ.د/ علي عبد الواحد وافي ص 4. ط. نهضة مصر بالفجالة 1930م.