أيها الناس :  اسمــعوا قولـــي ...إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم.

حج النبي &O5018; بالناس في السنة العاشرة من الهجرة، وخطب فيها خطبة جامعة ودَّع فيها الناس، ولم يحج بعدها، فلما وصل إلى البيت طاف به واستلم الحجر، وصلى ركعتين وشرب من ماء زمزم ثم سعى راكبا بين الصفا والمروة، وكان إذا صعد الصفا يقول: ( لا إله إلا الله، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم توجه إلى منى في الثامن من ذي الحجة فبات بها وفي التاسع من الشهر المذكور قصد عرفة، وهناك خطب خطبته المشهورة بخطبة الوداع.

بهذه الفقرة الموجزة ابتدأ العلامة محمد فريد وجدي (1878 - 1954) مقاله في الجزء الثالث من المجلد الخامس من مجلة الأزهر بعنوان: حجة الوداع.

وقبل أن نطوف في تراث مجلة الأزهر حول المبادئ التي أرستها هذه الحجة- نُعرِّف بصاحب المقال، وهو من قال عنه العقاد في كتابه «رجال عرفتهم»: هو فريد عصره غير مدافع .

إنه محمد فريد وجدي (1878 - 1954م) كاتب إسلامي مصري الجنسية من أصول شركسية ولد في مدينة الإسكندرية بمصر سنة 1878م - 1295 هـ وتوفى بالقاهرة سنة 1954م - 1373 هـ.

عمل على تحرير مجلة الأزهر لبضع وعشر سنوات، له العديد من المؤلفات ذات طابع ديني ووثائقي ومن أهم كتبه كتاب: (كنز العلوم واللغة)، وكتاب: (دائرة معارف القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي)، وتقع في عشرة مجلدات، وكتاب: (صفوة العرفان في تفسير القرآن ) أعيد طبعه عدة مرات، وكتاب: (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة)، وكتاب: (الإسلام دين عام خالد)، وكتاب: (الإسلام في عصر العلم)، وله ردٌّ علمي متين على كتاب: (الشعر الجاهلي) لطه حسين..

وقال عن نبل أخلاقه أنبغ تلامذته الراحل أ. د/ محمد رجب البيومى ما نصُّه : «صاحبت الأستاذ وجدى وجالسته فرأيت في أخلاقه الرفيعة نبيًّا مُلهما، وما ظنُّك بإنسان يقوم لخادمه إذا دخل عليه مهما تعددت مرات دخوله!! فإذا سألته في ذلك أجاب متسائلا عن الفرق بينه وبين الزائرين من الضيوف.

هذا عن صاحب المقال، أما عن محتوى المقال فقد عُرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع؛ لأن رسول الله &O5018; ودَّع الناس فيها ولم يحج بعدها، وحجة البلاغ لأنه &O5018; بلَّغ الناس شرع الله في الحج قولاً وعملاً، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بيَّنه.

 وأول ما يلفت الانتباه في هذه الحجة هو الجمهور الغفير الذي حضرها فما إن تسامع الناس بحجِّه هذا العام إلا وسبقهم اشتياقهم إلى نبي الرحمة وتوافدوا إلى الحج من مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا مائة وأربعة عشر ألفًا، وأتوا من كل حدب وصوب رجالا وركبانا أتوا ليسمعوا قوله، وليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله، فماذا قال &O5018; في خطبته؟

قال : «أيها الناس.. اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا».

نعم ... أعلن رسول الله &O5018; في خطاب قويٍّ حكيم خاطب به الناس أجمعين، أعلنها صريحة خفَّاقة بعد إتمام رسالته ونجاح قيادته، أعلن المبادئ والأسس التي أعلنها في أول دعوته، مبادئ العدل والمساواة ووحدة الأصل والمنشأ، وأسس قيام مجتمع إسلامي يسوده الحب والوئام والأخوة والصفاء، وزاد على ذلك ببيان الطريقة المثلى لحل مشكلات المسلمين التي قد تعترض طريقهم والتي حصرها في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، وهما: كتاب الله، وسنة رسوله &O5018;.

ففي حرمة الدماء والأموال والأعراض قال &O5018;:

«أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم –وفي رواية أخرى: وأعراضكم- حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد».

 ولِمَ لا ؟ وقد بدأ &O5018; بنفسه وأقاربه حين ترك ابن عمه، علي بن أبي طالب مكانه في مكة -وقت الهجرة- ليردَّ الودائع والأمانات إلى أهلها، انظر إلى قوله &O5018; بعد ذلك : «فمن كانت عنده أمانة فليردها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع وأول دم أبدأ دم عامر ابن ربيعة بن الحارث (ابن عبد المطلب)، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود ( أي أن في قتل العمد قصاصا) وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية».

وبهذه الكلمات تتجلى أبرز مقاصد الإسلام الخمسة: حفظ النفس والمال والعرض والدين والعقل. وينتقل &O5018; بالناس من ظلمات الجاهلية ودمائها والتفاخر بالأنساب والأعراق والمقاضاة الربوية المحرَّمة إلى نور الهداية الربانية والتبصُّر بالعدو الحقيقي الذي يجب معاداته والحذر من نزغاته بقوله &O5018;:»أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم».

ولعل موافقة هذه السنة- العاشرة من الهجرة - لاستدارة الزمان وعودته كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض هي الأنسب لقوله &O5018; في هذا الموقف : «أيها الناس... النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان : ألا هل بلغت! اللهم فاشهد».

وفي مكانة المرأة في الإسلام يقرر نبي الرحمة ما لها وما عليها بقوله &O5018;: «أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حقا : أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعضلوهن ( أي تمسكوهن وتضيقوا عليهم)، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا (أي ضعاف) أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا ألا هل بلغت اللهم فاشهد».

وفي هذا ما فيه من دعائم قيام الأسرة الصالحة ووسائل تهذيبها وشيوع السكينة والمودة والرحمة بين أفرادها لينطلق من أفراد الأسرة الواحدة إلى أفراد المجتمع كله وعلاقاتهم بعضهم ببعض واحتكامهم إلى كتاب ربهم  وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وذلك في قوله &O5018; : «أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامريء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله، ألا هل بلغت: اللهم اشهد.

أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب».

وهنا يصل &O5018; إلى ختام خطبته بقوله (أيها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». ويختم فريد عصره محمد فريد وجدي مقاله بقوله: وفي هذا اليوم نزل قوله تعالى :

( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )

[المائدة:3]