تاريخ الفقه الإسلامي زاخر بفقهاء أعلام ضربوا للحياة كلها أروع الأمثلة وأجمل النماذج على إنصاف الآخر والرضوخ لرأيه والاعتراف به، بل وتطبيقه والعمل به، وترك التعصب للرأي أو المذهب خروجاً من الخلاف وسداً لذريعته، ومحافظة على وحدة الأمة ولَمّاً لشملها، في قضايا فرعية ظنية الدلالة تحتمل تنوع الفهوم وتعدد الآراء، وهذا لعمري آية الفهم، ودليل الفقه، ورحابة العقل، ودماثة الخُلق. وذلك أن «التعصب للمذاهب يجعل صاحبه بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب، كما أنه يخرج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء » (1)
ومما لاشك فيه أن «أئمة الفقهاء رضي الله عنهم لم يتعصبوا لآرائهم، ولم يَدَّع واحدٌ منهم أن اجتهاده هو الصواب وحده، ولذا كان كلٌ منهم يحترم رأي غيره، ويطبقه وإن لم يكن قد قال به سدَّاً لباب الاختلاف، وتأكيداً على أن كل الآراء المعتبرة يجب أن تلقى التقدير بدرجة سواء.» (2)
ولهذا الإنصاف العلمي وترك التعصب للمذهب الفقهي ثلاثة مظاهر:
المظهر الأول:
عمل فقهاء الصحابة وغيرهم بآراء مخالفيهم، والانقياد لها محافظة على وحدة الصف. ومن أمثلة ذلك ما يلي:
●كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقصر الصلاة إذا قدم إلى مكة حاجاً أو معتمراً إلى أن كانت سنة تسع وعشرين هجرية، حيث خرج رضي الله عنه وأرضاه في هذا التوقيت في زمن خلافته من المدينة المنورة قاصداً مكة للحج، ولما وصلها تزوج امرأة منها، وفي أثناء إقامته بمنى لرمي الجمار صلى بالناس الظهر، والعصر، أربع ركعات، صلاة تامة، غير مقصورة. وذلك أن اجتهاده أدَّاه إلى أنَّ زواجه بمكة أعطاه حكم المقيم. وصلى وراءه عبد الله ابن مسعود مع أنه لا يوافق عثمان رضي الله عنه على إتمام الصلاة ويرى قصرها(3)، لكنه تابعه كراهة لخلافه كما قال ابن حجر يرحمه الله تعالى. (4)
أخرج البخاري بسنده عن إبراهيم النَّخعي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ &O5018; بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. (5)
ومعنى ( فَاسْتَرْجَعَ ): قال: إنّاَ لله وإنَّا إليه راجعون. وإنما استرجع ابن مسعود عندما أخبر بأن عثمان أتم الصلاة بمنى لمخالفة عثمان للأَوْلَى. (6) ومع ذلك تابع ابنُ مسعود رضي الله عنه عثمانَ رضي الله عنه على إتمام الصلاة في منى خروجاً من الخلاف. ويؤيده ما روى أبو داود: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه صَلَّى أَرْبَعًا، فَقِيلَ لَهُ:عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتَ أَرْبَعًا، فقَالَ:الْخِلاَفُ شَرٌّ».(7) وفي رواية البيهقي: « إني لأكره الخلاف «(8)
● أمثلة أخرى:
« قد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومَنْ بعدهم مَنْ يقرأ البسملة، ومنهم مَنْ لا يقرؤها، ومنهم مَنْ يجهر بها، ومنهم مَنْ يسر، وكان منهم مَنْ يقنت في الفجر، ومنهم مَنْ لا يقنت، ومنهم من يتوضأ من الرُّعاف (9) والقيء، والحجامة(10)، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضًا للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سراً ولا جهراَ.
وصلى الرشيد إماماً وقد أحجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة، وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه، مع أن الحجامة عند أبي يوسف تنقض الوضوء.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلى خلفه ؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب. (11)
وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدباً معه ــ والقنوت عنده سنة مؤكدة ــ فقيل له في ذلك، فقال: «أخالفه وأنا في حضرته» وقال أيضاً: « ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق». (12)
المظهر الثاني:
اختيار بعض الفقهاء آراء مخالفيهم في المذهب الفقهي، وترجيحها على آرائهم أو آراء مذاهبهم في مسائل فقهية معينة.
ومن أمثلة ذلك ما يلي:
النموذج الأول:
رجح الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رأي الإمام أبي حنيفة في زكاة الزروع على قول الإمام مالك.
قال الإمام أبو بكر بن العربي: «رُوِي عن مالك وأصحابه: أنَّ الزكاة في كل مقْتات، لا قول له سواه. وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما تُنْبِته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر..» وإلى رأي الإمام أبي حنيفة مال الإمام أبو بكر بن العربي فقال: «وأما أبو حنيفة فجعل الآية: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
(الأنعام: 141)
مرآته فأبصر الحق» (13)، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه. (14)
النموذج الثاني:
رجح الإمام القرطبي المفسر المالكي، رأي الحنفية في أنَّ المُولي من زوجته إذا انقضت الأربعة الأشهر بانت منه زوجته بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج الطلاق. (15)
النموذج الثالث:
استفتى الإمام البهوتي الحنبلي في فتوى فأفتى فيها على خلاف المذهب فكتب إليه من يعاتبه في ذلك قائلاً: إنك أفتيت بكذا بينما قلت في كتابك: كشاف القناع كذا وكذا، فالفتوى ليست متمشية على نهج المذهب، فرد عليه البهوتي بعبارة غليظة حيث قال: « قل لثور المدار: إنني إذا ألفت مشيت على قواعد مذهبي، وإذا أفتيت ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل »، وهكذا فالمفتون يأخذون بما ظهر لهم ولو خالف مذهبهم من غير حرج أو تعصب، فالكل يستقي من نبع واحد. (16)
من أجل ذلك قيل: «على المفتي أن يفتي بالصواب، ولو كان خلافاً لمذهبه». (17)
النموذج الرابع:
عن الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحَمَّام وصلَّى بالناس وتفرقوا، ثم أخبروا بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذاً نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل خبثاً. (18)
النموذج الخامس:
قال الإمام أبو بكر بن العربي عند تفسير قَوْله تَعَالَى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)
(النساء: 43)
سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ (الفقيه الشافعي) وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ ؛ قَالَ: يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَلْبَسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ. (19) ثم علق الإمام ابن العربي على انتصار الشاشي لمذهب أبي حنيفة ومالك مع أنه شافعي المذهب، فقال: « وهذا من دلائل صحة العلم وسعة الأفق ؛ فإنَّ العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية ويجنح إلى الحق والخير حيث كانا، ومن كان الحق غرضه تحراه واحتج له وكان معه في كل حال، أما التعصب للطائفية والمذهب وبُنَيَّات الطريق، وتمحل الحجج الواهية فمن دلائل صغر النفس وزغل العلم والأنس بالباطل».
النموذج السادس:
خالف الإمام محمد بن الحسن الشيباني شيخه الإمام أبي حنيفة في قوله: ليس للاستسقاء صلاة، وإنما الاستسقاء عنده مجرد دعاء واستغفار من دون صلاة؛ فقال الإمام محمد في « موطئه »: (20) «أما أبو حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه...»(21)
ومن يطالع هذا الكتاب يجد الإمام محمد بن الحسن الشيباني صرح بمخالفة شيخه أبي حنيفة في نحو عشرين مسألة.(22)
النموذج السابع:
مخالفة عصام البلخي الحنفي لرأي أبي حنيفة في عدم شرعية رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه.
ذكر أبو الحسنات اللكنوي أحد كبار علماء الهند في كتابه «الفوائد البهية في تراجم الحنفية « في ترجمة عصام البلخي ــ أحد علماء الحنفية، وهو تلميذ أبي يوسف، وأبو يوسف كما هو معلوم تلميذ أبي حنيفة، ــ أنه كان يرفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه.
وهذا بلا شك كما يعلم العارفون بتراجم الحنفية أمر غريب شاذ بالنسبة لعلماء الأحناف، لأنهم مطبقون تبعا لائمتهم الثلاثة أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف القاضي، كل هؤلاء الثلاثة قالوا: بعدم شرعية رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، بل قالوا بكراهة هذا الرفع كراهة تحريم، فلما رؤي عصام البلخي هذا وهو منهم يرفع يديه في الصلاة، سئل: كيف ترفع يديك في الصلاة وأنت تابع لأبي يوسف، وأبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وكلهم قالوا بأن هذا الرفع لا يشرع، قال: ــ وهذه كلمة حق ــ: إن الله تبارك وتعالى كلف كُلاً منا أن يعمل بما علم، وقد علمتُ أن النبي &O5018; رفع يديه عند الركوع والرفع منه، والله عز وجل لم يكلفنا أن نفهم شريعته بعقل أبي حنيفة، وإنما كل إنسان بعقله وعلمه،ويوم نلقاه سوف لا يقول لي لماذا خالفت أبا حنيفة، على العكس فيما لو تركت هذه السنة سيقول لي: لماذا تركت هذه السنة وقد عرفت أن النبي &O5018; كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه»؟
وعلق اللكنوي على فعل عصام هذا واتباعه هذه السنة ومخالفته لإمامه أبي حنيفة وأبي يوسف، تعليقا بديعا ورائعا جدا حيث قال:« ومن هذا يؤخذ أن من ترك تقليد إمامه في مسالة اتباعا لقوة دليل مخالفه لا يخرج بذلك عن تقليد الإمام، بل هو في ربقة التقليد في صورة ترك التقليد»
فقد صح الحديث عند عصام فترك قول الإمام واتبع الحديث، وحينما اتبع الحديث فقد اتبع الإمام ؛ لأنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي». (23)
النموذج الثامن:
أفتى الإمام شمس الدين الرملي من الشافعية بجواز دفع القيمة في زكاة الفطر تقليداً للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، في إخراج بدل الزكاة ـ الحبوب ـ دراهم. (24)
النموذج التاسع:
أدب الزمخشري وهو حنفي المذهب مع الإمام الشافعي عندما فسر قوله تعالى (ألا تعولوا) بمعنى: أن لا تكثر عيالكم؛ فقال: « والذي يحكى عن الشافعي رحمه اللَّه أنه فسر (ألا تعولوا) أن لا تكثر عيالكم، فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين، حقيقي بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا. وكفى بكتابنا المترجم بكتاب »شافي العىّ، من كلام الشافعي«شاهداً بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرق(25) وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات»(26)
المظهر الثالث:
أن بعض الفقهاء لم يمنعهم مذهبهم الفقهي من الاطلاع على المذاهب الأخرى.
ومن أمثلة ذلك أن الإمام المُزَني ــ على الرغم من أنه شافعي المذهب ــ كان يكثر من النظر في كتب الإمام أبي حنيفة.
«ذكر أبو يعلى الحنبلي في كتاب الإرشاد» في ترجمة المُزَني: أنَّ أبا جعفر الطحاوي كان ابن أخت المُزَني، وأنَّ محمد بن أحمد الشُّرُوطي قال: قلتُ للطحاوي: لِمَ خالفتَ خالك، واخترتَ مذهب أبي حنيفة ؟
فقال: لأني كنت أرى خالي يديم النَّظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه. فالمُزَني مع جلالة قدره، ووفور علمه، وغزير فهمه، كان يديم النظر في كتب أبي حنيفة، ويتعلم من طريقته، ويمشي على سننه في استخراج الدقائق من أماكنها، والجواهر من معادنها. (27)
نفعنا الله تعالى ببركة علمهم أجمعين، ويا ليت قومي يعلمون، ويقتدون بأسلافهم في عدم تعصبهم لمذاهبهم في قضايا فرعية تحتمل الخلاف وتعدد الفهوم ؛ من أجل لَمِّ الشمل والحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.