نبي الله نوح(1) عليه السلام من الرسل المذكورين في القرآن الكريم، وقـد ذكرت قصته في القرآن في أكثر من سورة طويلـة وقصيرة، كما سميت باسمه سورة تكريمًا له وتعظيمًا.

وباستقراء قصته عليه السلام في هذه السـور المباركة وجدتهـا قد اشتملت على سـت فرائد لم تتكرر مطلقا مادة وصيغـة، هي على ترتيب(2)  دراستها : ( نَسرا ـ تزدري ـ منهمر ـ دُسـر ـ ابلعـي ـ أَقلعي ).

وسوف نركز على دراسة تلك الفرائـد، ولن نعرض للألفاظ التي تجاورها في الآيات إلا بقدر ما يقتضيه سياق البحث والدرس.

فنبدأ وبالله التوفيق :

الفـريدة الأولـى

 (ونسرا)

وقـد وردت فـي قـولـه تعالـى:

(وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)

[نوح : 23 ]

وقد أجمع اللغويون والمفسرون على أن (وَدًّا ـ وسواعا ـ ويغوث ـ ويعوق ـ ونسرا) أسماء أصنام كان يعبدها قوم نوح عليه السلام وقد كانت هذه أعظم أصنامهم؛ لذا خُصت بالذكر بعد ذكر أصنامهم بوجه عام في قوله تعالى:

(لا تذرن آلهتكم)

وما يهمنا هنا هو بيان السر وراء مجيء الفريدة (ونسرا) مرة واحدة لم تتكرر على أي صورة أو صيغة من الصيغ، وقبل بيان ذلك نعرج على ما ورد لدى أهل اللغة والتفسير حول معنى هذه اللفظة.

يقول السمين الحلبي في عمدة الحفاظ: «(ونسرا)  قيل: هو اسم صنم، وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أصنامًا تُعبد من دون الله ... وكان ود على صورة رجل، وسواع امرأة، ويغوث أسدًا، ويعوق فرسًا، ونسر نِسْرًا »(3).

وإلى ذلك ذهب المفسرون، ولكنهم فصلوا القول في نشأة تلك الأصنام أرجحها ما ورد عن « محمـد بن كعب: أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونها فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت »(4).

أما لماذا جاءت هذه الكلمة في القرآن فريدة وحيدة فلذلك أسرار عديدة منها:

ـ أن حروف هذه الفريدة الثلاثة مجهورة، والجهر من صفات القوة في الحروف، وكأن هذا الصنم لديهم كان عنوان القوة والجبروت. وهذه القوة المفهومة من حروف هذه الفريدة تتواءم مع معنى النسر في اللغة « فالنسر طائر من الجوارح حاد البصر قوي سريع الخطى »(5) مع ملاحظة دلالة حرف الراء الذي يدل على تكرار الحدث مما يوحي بأنهم كانوا يداومون على عبادتـه، ويكررون الخضوع والخنـوع له أكثر من غيره، والله أعلم.   

ـ ومنها الإشارة إلى أن هؤلاء القـوم قد أتوا بفعلة شنيعة، وجريرة خطيرة لم يُسبقوا بها من قبل، تفردوا بها بيـن الأمم، يؤكد هذا أن القـرآن لم يذكر أن أحدا من أولاد آدم، وأتباع إدريس قد عبدوا الأصنام، وأول من خصهم بعبادة الأوثان كانوا قوم نوح الذين سنوا سنة سيئة عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد ألمح إلى ذلك الشيخ صديق خان كما مر في قوله: « فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت ».

ـ ومنها أن هذا الصنم ربما كان أعظم معبوداتهم الباطلة التـي كانت  متفاوتة في العظم ـ كما يقول الألوسي(6) ـ  يدل على ذلك أنـه كان على صورة النِّسْرِ ـ كما سبق ـ والنِّسْرُ من أقوى الطيور وأعظمها وأطولها عمرًا فخصّوه بمزيد من التبجيل والتوقير.

ـ ومنها أن هذه الفريدة تحكي تفرد موضعها في القرآن إذ لم يرد في موطن آخر في الذكر الحكيم مثل هذا العدد من الأصنام منسوبًا لأي أمة من الأمم إلا لقوم نوح، فعكست هذه الفريدة تفردهم بتلك الأمور العديدة، والله أعلم. 

*  *  *

الفريدة الثانية

 (تزدري)

ووردت فـي قـوله تعالى:

(وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)

[هود:31] .

وقد جاءت على لسان نوح عليه السلام في سياق رده على قومه أنه لن يطرد من مجلسه المؤمنين الذين يحتقرهم هؤلاء السادة الكبـراء، ولن يقول إرضاء لهم لن يؤتيَهم الله خيرًا؛ لأن الله يعلم بما في نفوس الجميع، ويحاسب كلًّا على قدر عمله.

والفريدة (تزدري) أصلها: « تزتري على وزن تفتعل إلا أنه اجتمعـت الزاي مع تاء الافتعال، والتاء مهمـوسة، والزاي مجهـورة فأبدل من التاء دالًا لقرب مخرجها، ولِتجانس الـزاي فـي الجهر، فقالوا: تزدري نحو يزدجر ويزدهي »(7).

هذا عن أصل تلك الفريدة.

أما عن دلالتها فقد أورد لها اللغويون عدة معانٍ متقاربة، ففي عمدة الحفاظ يقول: «قوله تعالى:

(تزدري أعينكم)

أي تعيب، يقال زريت عليه: أي عبته، وأزريت به قصَّرت به، وكذا ازدريت به.

وقيل في قوله:

(تزدري أعينكم)

تقديره تزدريهم أعينكم أي: تهينهم وتستقلهم، وقيل: تحتقرهم وتستخسهم، والمعاني متقاربة»(8)

وفي لسان العرب: « الازدراء: الاحتقار والانتقـاص والعيب وهو افتعال من زريت عليه زراية: إذا عبته»(9).

ولم يخرج المفسرون عما قاله اللغويون في حديثهم عن دلالة تلك الفريدة، يقول ابن الجوزي:

(ولا أقول للذين تزدري أعينكم)

أي تحتقر وتستصغر المؤمنين، قال الزجاج: تزدري تستقل وتستخس يقال: زريت على الرجل: إذا عبت عليه، وخسست فعله»(10).

إذن لماذا عبر المولى عليه السلام بهذه الفريدة دون غيرها من الألفاظ التي ذكر اللغويون والمفسرون أنها بمعناها، ومنها ما ورد في القرآن كالعيب والقلـة والانتقاص والإهانة(11)، ومنها ما لم يرد فيه ألبتة مثل الاحتقار والخسة ؟

أرى أنَّ ذلك راجعٌ ـ والله أعلم ـ إلى أن في الفريدة أسرارًا لا توجد في تلك الألفاظ السابقة منها:

ـ أن حروف هذه الفريدة تحكـي المعنى بوضوح شديد، تأمل حرف الراء المكسورة الممدودة التي تبيـن عن أن ازدراء الكافرين لهؤلاء المؤمنين أمر مركوز في طبائع قوم نوح، كما يحكـي حرف الراء المكرر بطبعه أن هذا الازدراء يتردد في نفوسهم في كل وقت وحين، ومن يجـر على لسانه بقية الحروف يجدها كلها تتراوح بين الجهر والشـدة، ولها في نطقها قوة تنبئ عن شدة احتقار هؤلاء الكافرين المكذبين للمؤمنين، والله أعلم.

ـ هذه الفريدة أكثر ثراء، وأغنى دلالة؛ لأنها تحمل في طياتها معانيَ الألفاظ التي تقاربها، ناهيك عن أن كثرة المبنى تدل على وفرة المعنى إذ لم يقل: (للذين تزريهم) من أزرى، ولكنـه أتى بها من الخماسي (ازدرى) وفي هذا إيماء إلى قوة الازدراء والاستخفاف، وأنهم بلغوا في ذلك مبلغًا كبيرًا وخطيرًا، ثم استمرارهم ومداومتهم على هذا السـلوك المشين مع طـول الأمد والعهد، ولهذا عبر بالمضارع إلفاتًا إلى هذا الملحظ، والله أعلم.

ـ تومئ هذه الفريدة إلى أن تلك الخصلةَ المرذولة في هؤلاء الكافرين  قد ترسخت في نفوسهم، وانطبعت في عقولهم حتى صارت ديدنًا لهم  تفردوا بها ـ على هذا النحـو المقيـت ـ بين مكذبي الأمم جميعـًا، وصار هذا الوصف في القرآن خاصًا بهم لا يشركهم فيه غيرهم، ومن ثَمَّ كان هذا هو الموضع الوحيد في القرآن العظيم كله الذي ذكر فيه هذا اللفظ الفريد.

ـ تعكس هذه الفريـدة ــ بدقة ــ مدى قصر نظر هؤلاء المكذبيـن الضالين؛ لأن ازدراءهم للمؤمنين لم يصدر عن روية وتدبر، وإنعام نظر بل عن نظرة عجلى وغرور مقيـت وعنجهية مرذولة بما عاينوه من رثاثة حالهم، وقلة منالهم، وكان الأجدر بهم أن يلتفتوا إلـى كمالاتهم الباطنيـة، وفضائـلهم النفسانيـة، وذاك يفسر سر إسنـاد الازدراء إلى عيونهم على سبيل المجاز العقلي دون ذواتهم، وهذا ـ من طرف خفي ــ رد على أن المؤمنين لم يكونوا أراذل وحقراء كما زعم هؤلاء؛ لأن الازدراء ـ في حقيقته ـ لا يعدو أن يكون رؤية عينية دون تأمل وتدبر في إيمانهم الوثيق، وسيرتهم العطرة،  وسلوكهم المحبب الجميل، كما أن فيها رد على أن الازدراء لا يرفع من قيمة المزدرِي، ولا يحط من شأن المزدَرى به، والله أعلم.   

             *  *  *

الفريـدة الثالثـة

 (منهمر)

ووردت في قولـه تعالى:

(ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر)

[القمر:11] .

وقد ذكر اللغويون أن ( منهمر) بمعنى مُنصَبٌّ، يقول السمين الحلبي:

 « قوله تعالى:

( بماء منهمر)

الهمر: صبّ الماء والدمع.

يقال : همرت الماء فانهمر ، وهمرت الدمع »(12).

وزاد المفسرون فذكروا أن (    منهمر) أيضًا بمعنى كثير غزير.

يقول القرطبي: « (منهمر)  أي: كثير قاله السدي، قال الشاعر:

أعينيَّ جودا بالدموع الهوامر

   على خير باد من معد وحاضر

وقيل: إنه المنصب المتدفق، ومنه قول امرئ القيس يصف غيثًا:

راح تمريه الصبا ثم انتحى

  فيه شؤبوب جنوب منهمر »(31).

ويقول الشيخ صديق خان في فتح البيان: «( منهمر) غزير نازل بقوة، أي منصب انصبابًا شديدًا في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما »(14).

وقد فضل الذكر الحكيم التعبيرَ بهذه الفريدةِ دون غيرها من الألفاظ التي تقاربها في المعنى نحـو منصب وكثير وغزير لسمات بلاغية عديدة منها:

ـ هذه الفريدة أبلغ وأوجزُ لأنها تضم في ثناياها المعانيَ السابقةَ كلَّها، ولا منافاةَ بينها جميعها فالماء النازل من السماء كان مصبوبًا ومتدفقًا بكثرة وغزارة.

ـ حروف هذه الفريدةِ ـ لمن يُجريها على لسانه بدقة  وتأمل ـ توحي بانهمار الماء ونزوله بكثـرة ووفرة ، تأمـلْ جرسَ الهـاء المفتوحـة الخارجة من الحلقِ، وهي تحمل دفقةً هوائية دون عائق، وما فيها من سلاسة وسهولة تحكي تدفق الماء النازل من السمـاء وانسيابه، ثم صوتَ الراء المنونة في حالة الوصل، الساكنةِ في حالة الوقف عـلاوةً على ما في طبيعتها من تَكرار؛ كل ذلك يصور وقع نـزول المطر على الأرض بشدة وقوة وتتابع وكأنك تسمع صوته عند نزوله.

ـ تتساوق هذه الفريدة مع سياقها أتم تساوق: فانهمار الماء من السماء كان نتيجة لدعاء نوح عليه السلام علي قومه كما يظهرُ من السياق السابق مباشرة في قوله تعالى:

 (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)

فاستجاب الله عليه السلام لدعائه على الفور، كما تدل عليه الفاء في قوله:

 (ففتحنا ) فنزل الماء كثيرًا غزيرًا على صورة غير معهودة في تاريخ البشر. ونظمُ الآية الرائع يؤكد ذلك حيث أسند الفتح إلى ضمير العظمة مباشرةً، وما في هذا الإسنـاد من قوة ورهبـة وفخامة، ثم التعبيرُ بالجمع ( أَبْوَابَ )، والتنكيرُ المفيد للكثرة في (ماء منهمر ).

إذا كان الحالُ كذلك فكيف يكون انصباب الماء؟ لابد أن يكون قويـّا شديدًا كثيرًا غزيـرًا بلغ أقصى الحد ومنتهى الوصف، كما هو مفهوم من هذه الفريدة وسياقها بدقة، فجاءت في موضعها الأشكل بها وتناسبت مع سياقها أتم تناسب، ولو وُضعَ غيرُها مكانَها لَلَفَظَها سياقُ الكلام، ورفضَها المعنى العام، فكأنما خلقت لهذا المكان وخُلق لها.

ـ مجيء هذه الفريـدةِ ـ على تلك الصيغة ِـ  فيه رعايةٌ للفاصلةِ المبنيةِ على حرف الراء في السورةِ كلها، وأثرُ ذلك في الحفاظ على الجرس النغمي، والانسجـام الصوتي الذي يسري في أوصال تلك السورة الكريمة باطراد واضح.

ـ تومئ هذه الفريدةُ إلى تفرد موضعها في القرآن بهذا الأسلوب الفخم وذاك النظمِ العجيب، كما ترشدُ إلى أن نزول الماء على تلك الصفة كان أمرًا فريدًا عجيبًا مُذ خلق الله الأرض إلى يوم القيامة تلبيةً لدعاء نوح عليه السلام تفرد به بين الأنبياء قاطبة.

ـ تشيـرُ هذه الفريـدةُ إلى أن عذابَ قوم نوح عليه السلام كان بالغرق في الماء الذي هو سببُ النماء والحياة والخير والبركة، وكان نبيهم نوحٌ عليه السلام يعِدُهم إن آمنوا واتقوا أن يُنـزل الله عليهمُ الماءَ مدرارًا

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا)

[ نوح 10ـ 11]

(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)

[هود:من الآية52]

فلما لم يستجيبـوا، ويستغفروا ربهم عاقبهم بماء منهمر فُتحت فيه أبوابُ السماء على مصراعيها فجاءهم العذاب من جنس ما كانوا يؤملون من الخير والنعمة، والله أعلم.

*  *  *

الفريدة الرابعة

(ودسر) وقد ذُكرت فـي قولـه تعالـى:

(وحملناه على ذات ألواح ودسر)

[القمر:13] .

وهذه الفريدة ترتبط بالسابقة أشد ارتباط؛ لأن المولى عز وجل حين فتح أبواب السماء بماء منهمر، وفجر الأرض عيونا كثيرة التقى فيها الماءان على أمر قد قُدِر أمرَ سبحانه نوحًا عليه السلام أن يركب السفينة التي كان قد صنعها قبل الطوفان، تلك السفينة العجيبة الغريبة التي جاء التعبير عنها هنا ـ كما يقول البلاغيون ـ  بالأسلوب الكنائي في قوله:

(ذات ألواح ودسر)

 وقد اشتمل أسلوب هذه الكناية البليغة على الفريـدة (ودسر)

وقد اختلف اللغويون في المراد منها على أقوال عديدة: « قيل الدسر: المسامير، الواحد دسار ... وقال الحسن: الدسر صدر السفينة؛ لأنها تدسر الماء أي تدفعه بصدرها، وقيل: هي أضلاعها، وقيل: شُرُطها التي تُشد بها كما تشد بالمسامير، وقيل: أصلها وطرفاها »(15).

وقد نَحَتْ كتبُ التفسيـر منحى كتب اللغة، يقول ابن الجوزي: « في الدسر أربعة أقوال: أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، والثاني: أنه صدر السفينة؛ سمي بذلك لأنه يدسر الماء أي يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس، الثالث: أن الدسر أضلاع السفينة، قاله مجاهد، الرابع: أن الدسر طرفاها وأصلها، والألواح جانباها، قاله الضحاك »(16). 

ولم يخرج أحد من المفسريـن(17) عما قاله ابن الجوزي، مع اختلافهم في ذكر هذه الوجوه الأربع كلها أو بعضها.

والراجح من هذه الآراء ـ والله أعلم ـ أن (الدسر) ـ هنا ـ هي : المساميـر، وليس صدر السفينـة، أو أضلاعها، أو طرفاها وأصلها؛ لأن صدر السفينة وأضلاعها وأصلها لا يكون إلا من الألواح الخشبية وقد سبق ذكرها في قوله: (ذات ألواح)

فبقي النص على ما يربط هذه الألواح، ويؤلف بينها بقوة وشدة وإحكام وهي المسامير.

أما لماذا استعاض عن ذكر المسامير وجاء بدسر، ولو ذُكرت المسامير لكانت فريدة أيضًا فذلك يعود لأمور كثيرة منها:

ـ أن حروفها وحركاتها تصـور المعنى أتم تصوير وأوفاه: فحرف الدال شديد مجهور، وقد زادته الضمة شدة وقوة، ثم السين المضمومة  والراء المجهورة المنونة ضاعف ذلك كله من القوة والشدة والإحكام، وصورت الدسر وهي تمتد وتتعمق في ألواح السفينة لتزيد من شدة إحكامها وقوتها نظرًا لما ينتظرها من أهوال الموج وشدة العواصف.

     وهكذا دلت الفريدة على المطلوب دلالة وافية بإيقاع أصواتها، وقوة حركاتها، ومن ثَمَّ عبر بالجمع (ودسر) دون المفرد (دسار)؛ لأن هذه المعاني لا تُفاد إلا من هذا الجمع فحسب، ولفظة المسامير لا توحي ألبتة بتلك المعاني، والله أعلم. 

ـ في التعبير بـ (ودسر) دلالة صريحـة على المساميـر مع قوة اللفظة ووجازتها؛ لأن « أصل الدسـر: الدفع الشديد بقهر سمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة»(18).

ـ في الفريدة (ودسر) إيماء إلى أن هذه السفينة ربما تكون أول سفينة

صُنعت في التاريخ كما ذكر ابن عاشور(19)، أو أنها أول سفينة تصنع من الألواح المُثْبتة بالمسامير، ولم يكن ذلك معروفًا من قبلُ فأشارت الفريدة إلى تفرد هاتين الحالتين، والله أعلم.

ـ كما تدل هذه الفريدة على تفـرد صناعة هذه السفينة؛ لأنها صنعت بوحي من الله ـ عز وجل ـ وتحت رعايته وعنايته كما قال سبحانه:

(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا  )

[المؤمنون : 27]

والمصنوع بأمره ووحيه لابد أن يكون في قمة الجودة والمتانة والحذق والمهارة، ومِن ثَمَّ استطاعت هذه السفينة استيعاب صنوف شتى من الخلائق فكانت أعجوبة زمانهـا وفريدة عصرها، ولا توجد سفينة غيرها في الكون قديمًا وحديثًا صُنعت هكذا، فتفردت بهذه الصفة في تاريخ النبوة والإنسانية جميعًا.

ـ عكست هذه الفريدة من طرف خفي المهنةَ التي تفرد بها نوح عليه السلام عن باقي الأنبياء وهي مهنة النجارة ـ كما تفـرد غيره من الأنبياء بمهن أخرى سيأتي ذكرها ـ  وهكذا فإن تلك الفـريدة أوفى غرضًا وأدق وضعًا، ولا يمكن أن تحل لفظة أخرى محلها أو تسد مسدها.

فلله در كلمات القرآن ما أروعها، وما أكثر إيحاءاتها، وأعظمَ إشاراتها فهي كنز لا ينفد، وعطاء دائم مستمر لا ينقطع.

*  *  *

الفريدة الخامسة والسادسة

(  أقلعي)   ـ  ( ابلعي  )

 وقد وردتا فـي قـوله تعالـى:

(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

[هود : 44] .

بعدما ركب نوح عليه السلام ومن آمن معه في الفلـك، وغرق من كذب به، أمر الله ـ عز وجل ـ الأرض أن تبلع ماءها، والسماء أن تمسك مطرها حتى يعود الكون  إلى سيرته الأولى، هذا هو  سياق الآية التي حوت فريدتين لم يردا إلا في هذا الموطن.

وقد ذهـب اللغويـون والمفسرون في معناهما مذاهـب شتى نعرضها بإيجاز ثم ندلي بدلونا إن شاء الله تعالى.

ونبدأ بالفريدة (ابلعي)

يقول ابن فارس: « الباء واللام والعين أصل واحد وهو ازدراد الشيء، تقول: بلعت الشيء أبلعه »(20).

وفي لسان العرب: « بلع الطعام وابتلعه: لم يمضغه »(21).

وفي عمدة الحفاظ: « البلع: تغييب الشيء في الجوف ثم يطلق على كل تغييب على سبيـل التشبيه، يقال : بلعت الشيء أبلعه بلعًا، ومنه البالوعة»(22).

وفي المعجم الوسيط: « بلع الماء والريق يبلع بلعًا جرعه»(23)

وهـذه المعاني الحقيقية هي التي تردد الحديث عنها في كتـب التفسير.

يقول الطبري:

(يا أرض ابلعي)

أي: تشربي، من قول القائل: بلع فلان كذا يبلعه: إذا ازدرده »(24) ويقول الفخر الرازي: « بلع الماء يبلعه بلعا إذا شربه، وابتلع الطعام ابتلاعًا: إذا لم يمضغه»(25).

ويقول الشيخ صديق خان: « البلع: الشرب وتغوير الماء ومنه البالوعة، وهي الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد يقال بلع ما في فمه من الطعـام: إذا ازدرده»(26)، وهكذا فإن البلع لدى اللغوييـن والمفسريـن يطلق حقيقة على ازدراد الشيء، وجرعه وعدم مضغـه وتغييبه في الجوف، وكلها معان متقاربة.

ولكن البلع في الآية لا يراد منه هذا المعنى الحقيقـي بل هو مستعار للنشف كما يقول الشيخ صديق خان : « استعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيـل التدريج، قال الخفاجي: ( النشف ) من نشـف الثوب العرق كسمع وبصر إذا شربه، قال المدقـق: هذا أولى من جعـل السكاكي البلع مستعارًا لغور الماء في الأرض لدلالتـه على جـذب الأرض ما عليها، كالبلع بالنسبة إلى الحيوان؛ ولأن النشف فعـل الأرض، والغور فعل الماء، فلله دره ما أكثر اطلاعـه على حقائـق المعاني، وقال عكرمة: ابلعي هو بالحبشية ازدريه، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال معناه: اشربي بلغة الهند، أقول: وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العـرب ظاهر مكشوف فمالنا وللحبشة والهنـد  والمعنى انشفي وتشربي »(27). 

إذن لماذا آثر النظم الكريم هذه الفريدة على غيرها من الألفاظ التي تقاربها معنى؟

أرى أن ذلك راجع ـ والله أعلم ـ إلى أمور منها : 

 ـ أنَّ التعبير بهذه الفريدة ـ دون غيرها ـ هو عنوان الإيجاز وقمة الإعجاز؛ لأن المولى ـ عز وجل ـ لا يريد من الأرض أن تمتص مياهها هنيهة هنيهة، كما يفعل الآكل عند مضغه لطعامه، بل يريدها أن تزدرد ماءها بسرعة كمـا يبلع الجائع المنهـوم اللقمـة فتصل إلى جوفه من أول وهلة دون أن يمضغها مضغًا، فجمال اللفظة وسحرها يعود إلى أنها استعارة ـ كما مرـ حيث شبه الأرض في ابتلاعها الماء دون تأخير وإبطاء بإنسان يبلع الطعـام بلعًا دون مضغه مضغًا على سبيل الاستعارة المكنية، وذلك ـ بلا شك ـ يكون أسرع لجفاف الماء مما لو قال: نشفي أو جففي، وكأن الأرض « لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبـت مسامها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعًا فهي لم تنفذ الأمر بالطبيعـة المألوفة لها، وإنما بالانقياد لأمر خالقها جل جلاله »(28). 

وهذا يدل على فضل هذه اللفظة التي لا يمكن لغيرها أن يغني غناءها، ورحم الله عبد القاهر(29) حين لم يجعل لهذه اللفظة ـ مفردة ـ موضعًا في الفصاحة

 و البلاغة إلا من خلال النظم الواردة فيه.

وقد رأينا من خلال هذا التحليـل أن هذه اللفظة قد  بذت غيرها من الألفاظ التي تقاربها جرسًا وصوتًا ومعنى، وعذر الشيخ في ذلك أنه كان يرد على من ينسب الفضل كل الفضل للفظ دون النظم. 

ـ أن في هذه الفريدة إيمـاءً إلى أن ابتلاع الأرض للماء الكثير الذي تفجر منها لم يكن له نظير ولا مثيل، فهو كما قال المفسرون: ليس كالنشف المعتاد التدريجي، بل كان شيئًا عجيبًا فريدًا في ذاته لم تألفه الأرض مذ ذلك التاريـخ إلى يوم القيامة فقد بلغ حد الإعجاز، ومثلما كان خروج الماء من باطن الأرض بكثرة وغزارة على غير المعتاد كما يفهم من النظم المبـارك في قولـه:

(وفجرنا الأرض عيونا)

كذلك كان دخول الماء في جوفها على غير المعتاد، فتمّ التلاؤم بين الإدخال والإخراج، والله أعلم.  

ـ أن في التعبير بهذه الفريدة إشارة إلى تفرد ذلك الموضع في القرآن الكريم، وتفرد تلك الحالة في تاريخ النبوة والإنسانية، والله أعلم.  

*  *  *

أما الفريدة (أقلعي)    فقد ذهـب اللغويون والمفسرون إلى أن الإقلاع بمعنى: الإمساك والكف والإزالة يقول السمين الحلبي:

« قوله تعالى: (ويا سماء أقلعي)

أي: أمسكي ماءك، من قولهم: أقلعت الحمى إذا زالت، والإقلاع الإزالة »(30).

ويقول الفخر الرازي: « قوله تعالـى:

(ويا سماء أقلعي)

يقال: أقلع الرجل عن عملـه إذا كـف عنه، وأقلعت السماء بعـدما  أمطرت إذا أمسكـت »(31)، وكلها ألفاظ متقاربة المعنى كما ترى، ولكن الظاهر أن « إقلاع السماء مستعار أيضًا لكف نزول المطر منها  لأنه إذا كف نزول المطر لم يخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدم الأمر بالبلع لأنه السبب الأعظم لغيض الماء »(32).

هذا، وقد انتقى الذكر الحكيـم هذه الفريـدة دون غيرها من الألفـاظ السابقـة التي من الممكن أن تحل محلها ـ عند من يقـول بالترادف ـ لأن في الفريدة أسرارًا ليست في تلك الألفاظ منها:

ـ  أنها ترشد بدقة إلى أن السماء قد كفت عن إنزال المطر في التوِّ واللحظة ثم عودة الأمور إلى طبيعتها، واستمرار الحياة على وتيرتها.

أما لو قال: يا سماء أمسكي، لتوهم منه انحباس الماء ومنعه والضن به، وعدم إنزاله كما يفهم من الإمساك في اللغة، وهذا غير مراد؛ لأن فيه بوارًا وهلاكًا للحيـاة على الأرض، ولو عبر بلفظة أخرى من الألفاظ السابقة وهي مذكورة في القرآن في أكثر من موضع لَمَا أوحت بالمعاني المطردة في التعبير بالفـرائد، وهي تفرد هذا الموضع في القرآن الكريم، وعدم تكرره، وتفرد نبي الله نوح عليه السلام من بين الأنبياء بمعجزة انفتاح أبواب السماء بإنزال الماء بكثرة ووفرة على غير العادة ثم أمر السماء بالإقلاع عن الماء بسرعة ودون مهلة علـى حد قولـه للشيء: كن فيكون، وتفرد هذه الحالـة في تاريـخ الإنسانية مذ كانت حتى يوم القيامة، والله أعلم.

ـ ولا يخفى ما في هذه الفريدة والتي قبلها من إيقاع صوتي ناجم من حروفهما، وبخاصة حرف العين الذي يحكي استجابة الأرض والسماء بسرعة شديدة للأمر المتوجه إليهما، ناهيك عما في هاتين الفريدتين من تصوير بارع رائع أضفى على الكلام أبهة وجمالًا « وخلع الحياة على المحسوسات الجامدة والظواهر الكونية فجعلها ذات انفعال وتفكير وعاطفة»(33)، ثم « تأمل التجانس والإيقاع المـوسيقي بين ابلعـي وأقلعـي كما أن القرآن اختار لفظ «ابْلَعِي» على «ابتلعي» لكونه مختصرًا، وأكثر تجانسًا مـع «أَقْلِعِي»، وتأمل كيف أن القرآن لم يقل يا أرض ابلعي فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت؛ لأن ذلك يوهم إمكانية المخالفة والتمرد على العظمة الإلهية بل قال فقط:

(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي)

لأن الأمر الإلهي لا يُرد، والكون كله خاضع لكلمته (كن فيكون) (34). 

هذا، وفي نظم الآية لطائف أخرى جمة فهي كما قال القرطبي « لو فُتش كلام العرب والعجم ما وجد فيـه مثل تلك الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها واشتمـال المعاني فيها » (35)، ولا نطيل بعرضها هنا لأنها لا تدخل في صميم بحثنا فلتراجع في مظانها(36).