بالرغم من مرور 42 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة والاحتفال سنويًا بالنصر العظيم، إلا أن ملف قصص وبطولات المقاتلين في الحرب لم تنطوي ولم تهدأ بعد، ففي كل احتفالاً سنويًا، تظهر قصص بطولية تسجل سطرًا جديدًا في تلك الملحمة التاريخية، وتأكد عبارة الزعيم الراحل محمد أنور السادات في خطاب النصر أمام البرلمان:"إن الواجب يقتضينا باسم الشعب، وهذه الأمة، ثقتنا المطلقة في قوتنا المسلحة".
 
 
 
وبهذه العبارة التقت "الفجر" باللواء "مدحت عاصم" أحد المقاتلين بحرب أكتوبر بقطاع الجيش الثاني "اللواء 112"الفرقة 16متمركزة من جبل مريم إلى الدفرسوار- سلاح المخابرات الحربية والاستطلاع، والذي أكد في بداية حديثه أن :"حرب أكتوبر كان بها 80 ألف مقاتل، وخلفت 2768 شهيد هم شفعائنا يوم القيامة وسفرائنا إلى الجنة".
 
 
 
وبدأ مقاتل الأمس وشاهد اليوم حديثه لـ "الفجر" حاملاً أنواطه العسكرية، وبدأ بلقائه مع الزعيم الراحل "جمال عبدالناصر" داخل الجبهة.
 
 
 
ويقول اللواء مدحت عاصم: "كُنت طالب في كلية الفنون الجميلة عندما مُني المصريون بنكسة عام 1967، وشعرت مثل كل أبناء جيلي بالمسئولية اتجاه تلك الوطن ومرارة الهزيمة، وقد دفعني كلمات وخطب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بترك كلية الفنون، والالتحاق بالكلية الحربية، وكنت في أخر سنة بالكلية دفعة 1957، الدفعة الوحيدة التي تخرجت دون اختبارات أخر العام، وذلك لدعم الجبهة المصرية عام 1970، فقد كانت دفعتي 1200طالب، ثم تم اختياري ضمن 25طالب في تخصص جناح الاستطلاع".
 
 
 
وأضاف:"سلاح الاستطلاع له خصوصية شديدة داخل الحرب، لأنه يتبع المخابرات الحربية، ويقف خلف خطوط العدو للحصول على المعلومات، وكان دوره يوميًا الحصول على المعلومات بواسطة التصوير، كشف دوريات الاستطلاع، الإغارات، الكمائن، ومتابعة الأسرى، فسلاح الاستطلاع يتقدم دائمًا القوات المصرية 5 كيلو أو يزيد طوال فترة الحرب بطول الجبهة، وكان دورنا الحصول على معلومات مسبقة وتقديمها للقيادات، وكنا مقسمين إلى كل قائد وثلاثة ضباط، وكل ضابط يتبعه 18عسكري، وهناك تدريب عالي على كافة أنواع الأسلحة بالجيش المصري".
 
 
 
وتابع: "اشتركت في حرب الاستنزاف التي بدأت يوم6يونيو 1967 حتى الساعة الواحدة و55 دقيقة يوم6 أكتوبر، يعني بعد الهزيمة مباشرة، وقبل الحرب بـ 5دقائق وكانت قد توقفت عام 1970 لأسباب لا مجال لتفنيدها، وكانت أهم نتائج حرب الاستنزاف تدمير المدمرة بميناء إيلات ثلاثة مرات، وحرب القناصة على الضفة الأخرى، وتدمير خلف خطوط العدو الجوية، كانت الحالة المعنوية للضباط مرتفعة على الرغم من الهزيمة في حرب 1967، وقد زاد اصررنا على النصر بعد وفاة عبدالناصر، واستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة، فقد كانوا بالنسبة لنا قيادات مُلهمة، وأقدر أقول دخلت الكلية الحربية اقتداء بهم".
 
 
 
وعن لقائه لأول مرة مع جمال عبدالناصر قبل وفاته 5 أشهر عام 1970، قال اللواء "مدحت عاصم": كان عبد الناصر يتفقد مشروع للجنود من أول المشروع حتى المراحل النهائية بتبة المشاة، ثم حدث انعكاس من نظارتي التي استطلع بها على نظارة عبدالناصر، وقد سأل على سبب الانعكاس، فقال له أحد القيادات: ضباط الاستطلاع،و على الفور تم إستدعائي من أعلى تبة المشاة، وسألني الرئيس نصاً: هل ستعبر القناة؟"
 
فأجبت: أنا عبرتها بالفعل.
 
ثم سألني: إزاي هاتعدي وقت اطلاق النار؟
 
فأجبت: نحن ضباط الاستطلاع تم تدريبنا الحصول على المعلومات وأخلص المعلومة من مكانها وليس من مكاني بالضفة الغربية، ابتسم عبد الناصر وقال للقادة: أنا مطمأن على الجبهة المصرية بالأمل الأخضر الصغير.
 
 
 
وألهب ذلك الحديث الحماس بداخلي، فعبدالناصر كنا نراه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس الجمهورية، وأب ورمز لكل الوطن العربي".
 
 
 
وتابع اللواء حديثه: "كنا نعبر قناة السويس للحصول على المعلومات منذ وقت حرب الاستنزاف إلى يوم أكتوبر، وكنا نجد انتشار وحدات الجيش الاسرائيلي على طول خط بارليف وفي العمق، والجيش الاسرائيلي منتشر على كافة نقط الملاحظة، والاحتياطات القريبة والتكتيكية والتعبوية على حسب العمق، وكنا نعبر سباحة من خلال حبل العبور تحت مستوى سطح المياه والأسلحة مغلفة بالبلاستيك حتى لا تدخل إليها المياه، أو من خلال العبور المباشر، وذلك في الظلام الحالك، وكان علينا العودة قبل الفجر، حتى لا يتم مشاهدتنا، أو نبقى هناك لمدة24ساعة، وكنا نلبس"أفرول الجيش المصري" بلون الأرض، بإسلوب الأخفاء والتمويه، حتى لا يتم كشفنا، وكنا نشعر بكامل المسئولية، بإن المعلومة التي تُقال يتوقف عليها مصير الحرب، وكانت القيادات ترفع الروح المعنوية من خلال الإيمان بالله، وحب الوطن، الثقة في التدريب والجنود وعوامل النصر، والتفاخر بالقوات المسلحة عبر الأزمان، وبطولات القيادات، والحب الشعبي العميق والمتبادل بين المقاتلين والشعب".
 
 
 
واسترسل: "قبل حرب 6أكتوبر تدربنا على كيفية عبور خط بارليف بالقناطر الخيرية، وتم إنشاء خط بارليف طبق الأصل في القناطر، وكنا نعيد التدريب، لكي يتم عبوره في وقت قياسي، لأن الحرب كانت تكتيكية وكما وصفها الزعيم السادات "معركة الأسلحة المشتركة" بين القوات البحرية والجوية والدفاع الجوي والبرية، وبإنها كانت معجزة بمعنى الكلمة، وأن يكون هناك تنسيق بين الأسلحة المشتركة في وقت قياسي".
 
وعن الإعلام بموعد حرب 6أكتوبر بعد الانتهاء من التدريبات وجمع المعلومات من مواقع العدو، كشف: "قادة اللواءات علموا بموعد الحرب قبلها 5أيام، قادة الكتائب 3أيام، قادة السرايا يوم 6أكتوبر، عناصر الاستطلاع يوم 25سبتمبر، واعتمدت على الكتمان والسرية الشديدة، ويبلغ الضباط العساكر يوم  5أكتوبر ليلاً، وقد تم تدريب العناصر بإن غداً عبور القناة، ولكن لم أبلغهم بالتوقيت تحديدًا، وقد كان التدريب بالذخيرة الحية، وذهبنا إلى ملجئ العبور بالضفة الغربية، ودمرت الهيئة الهندسية جميع الأسلاك، لمنع رصد رادار العدو تحركات القوات المصرية".
 
 
 
ووصف المقاتل"مدحت" الذي يفضل تلك اللقب على جميع أبطال القوات المسلحة وقت تحرك عناصر الاستطلاع في حرب 6أكتوبر:"انطلقنا من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية في تمام الساعة الثانية و25دقيقة، وتقدمنا القوات البرية بمسافة 3كيلو لتأمينها، وتقدمنا بعد الضربة الجوية الأولى، وعند وصولي ناحية الضفة الشرقية شهدت عودة الطيران المصري وأول علامة النصر التي قام بها الطيران، والتي تكون عبر تمايل حركة الجناحان، وقد كانت تلك اللغة الخاصة بنا، وعند وصولنا الضفة الشرقية أبلغت القيادات عن أول بيان من موقع العدو، بخسائر العدو في النقطة الحصينة، ونقطة الملاحظة، الاحتياطي القريب 7دبابات، وقد قمنا بقطع أسلاك التليفونات الموصلة إلى الوحدات الخلفية، والإبلاغ عن الجرحى والمصابين اليهود، وأبلغت عن حالة الهلع والهرج على ضفة العدو، وقد كان أول بلاغ لنا وشاهد على تلك اللحظة وأبلغته إلى الرائد "رؤف إسماعيل" وبجواره القائد "اللواء عادل يسري"في مركز القيادة الرئيسي، وعندما أعطينا إشارة الأمان وسلامة الأرضي تقدمت قوات الصاعقة، ثم يليها مفارز التأمين، ثم القوات البرية التي ستتمركز على ضفة العدو، وتبدأ في الانتشار".
 
 
 
ونوه الشاهد على المشهد الأول عقب الضربة الجوية الأولى وفقدان توازن العدو في الضربة المفاجئة: "قوات الصاعقة كان دورها الاشتباك والتعطيل مع القوات الإسرائيلية، لحين عبور القوات الرئيسية، ثم يأتي دور القوات البرية في التمركزات، وفور وصول قوات الصاعقة كنا نقوم بالتقدم لكيلوات تسبق القوات المصرية، لإعطاء إشارة الأمن، وقد كان البيان الثاني لنا، بإن قامت القوات الاسرائيلية بدقع 22دبابة، ليلة 7أكتوبر في اتجاه موقع الطالية، 5عربات مدرعة إلى موقع تبة الشجرة المؤدي إلى العريش، وتم الابلاغ عن الاحتياطي القريب والبعيد، وقد جاءت معركة الدبابات الكبرى يوم 8أكتوبر بتبة الطالية".
 
 
 
وعلق المقاتل مدحت:"لن يمحو تلك المشهد من رأسي طوال العمر، فقد شعرنا بإن الملائكة تحارب معنا، تم إمداد الدبابات بالذخيرة، والتي قامت بصيد دبابات العدو واحدة تلو الأخرى، مثل صيد الذباب وتدمير دبابات العدو ووقوع أسرى، ففي أثناء خروج مدفعية نحو دبابة العدو، عقب المناورة، وجدنا صاروخ مر بجانب دبابة العدو، وتسبب في تفجيرها، على الرغم أنه مر فقط بجانبها ولم يلمسها، واتجه لكيلوات أمامية، ومن المفترض أن يلمس الصاروخ الدبابة، فقد وجدنا نصر الله لنا في الحرب".
 
وأكد اللواء مدحت عاصم أن الجيش المصري لم يكن يحارب بمفرده، وأنما المساندة الشعبية ساهمت في رفع الروح المعنوية وجاءت أهم أسباب النصر، وكإن الشعب كله كان يقاتل، قائلاً: "أهالي مناطق السرابيوم والدفرسوار والمنياوي رفضوا التهجير في حروب الاستنزاف، وكانوا يعدوا لنا يوميًا الطعام، وقد كان هناك السيدة"زينب" استشهد أولادها في حرب 1967، ومع ذلك رفضت التهجير، وكانت تعد الطعام في أيام الحرب للجيش، وعندما عبرنا القناة جاء الأهالي والفلاحين بالمنطقة بالتمركز بالضفة الغربية وحملوا الشوم، حماية للمنطقة، ونحن على الضفة الأخرى".
 
 
 
وأشار: "كنا في الحرب جميعاً أخوة وفدائيين لبعضنا البعض، كان لا يوجد في الحرب فرق بين ضابط وعسكري،كنا نحمل المصابين ونزحف بهم، وننقذ أرواحهم، إلا أنني في الحرب فقدت أعز أصدقائي وصديق عمري"أشرف الجاويش" وقد كان والده عضو مجلس الشعب، فقد كنا أصدقاء منذ الكلية الحربية، ولدينا حلم مشترك وهو النصر، وكنا في الإجازات يقيم معي في منزلي وكانت الأسرة تعتبره عضو أساسي، وقبل وفاته بساعات رأيته أمام عيني استشهد، ففي يوم 18أكتوبر كنت متعود أحدثه عبر اللاسلكي"اسبرتاكوس.. أنت معايا"، ولم أجده يرد عليا، فقلت لزميلي الذي بجانبي"أشرف استشهد" وبالفعل رد عبر اللاسلكي الخاص به صديقنا، وقال لي"أشرف " بيموت"،ولم أقدر على التحرك من موقعي بسبب نقط العدو والمسئولية، وقد توفى عقب ولادة ابنته بيومين، ولكنني استمريت أنا وأصدقائي في الحرب التواصل مع أسرته، ومع ابنته التي لم يراها".
 
انتقل "مدحت عاصم"في شهادته بإنه أول ضابط أخرق قرار وقف اطلاق النار وألقى القبض على أتوبيس سياحي كان يخترق موقع الجيش المصري للتجسس، قائلاً:"قد أكون تسببت في أزمة ولكني كنت مستعد لتحمل نتائجها، وكان هدفي الأول طبعاً حماية موقعنا، ففي يوم 22أكتوبر، كان هناك قوات طوارئ دولية مع قوات العدو، والتي تفصلنا جبهة معهم، ووجدت أتوبيس سياحي به 22فوج وثلاثة ضباط إسرائيليين، يتوجهون نحو مواقعنا وليس موقع العدو، وذلك يعتبر خرق لنا، وقد أشار أحد زملائي بضرورة ابلاغ القيادة، ولكني وجدت أن استغراق وقت الابلاغ سيسمح لهم، بانجاز مهماتهم، فرفضت، وقمت بضرب اثنين صاروخ ار بي جي نحو جبهة العدو دون خسائر، لتحذيرهم من تحرك الأتوبيس نحونا، وقد قمت بالقوات معي، باقتحام الأتوبيس وتفتيشه، وقد قمنا بحمل ذخائرنا، وتقويض الأتوبيس والاتجاه بهم نحو ضفة العدو، والتعامل معهم كأسرى، وبأسلوب الجيش المنتصر، وقد استقبلنا الجيش الاسرائيلي بإشارات بذيئة،تدل على مدى غلهم من الحرب والموقف، وقد تم مرور الموقف".
 
 
 
واختتم اللواء"مدحت عاصم" أحد أبطال الحرب والمقاتلين جانب من مشاركته وشهادته عن الحرب حديثه موجهاً رسالة إلى أبناء القوات المسلحة في سيناء، قائلاً: "بعد مرور 42سنة على حرب أكتوبر، أحيي أرواح الشهداء، ومن شارك في المعركة، وقد كتب الله على سيناء أن تكون أرض المعارك، وقلبي وعقلي مع كل شهيد استشهد في سيناء في مواجهة الأرهاب، وستظل سيناء مقبرة الغزاة، مهما اختفلت توجهاتهم ونوعياتهم، وستظل مصر شامخة.. تحيا مصر".