مافائدة السنوات اذا اخذت حلماً جميلاً منها، ومافائدة العمر إن كانت تعيش مع أحد لا تحبه ، أو لا يحبها ، يكفي أن تكتب مذكراتها لتشعر بلذة العذاب التي تطاردها بين الحين والأخر ، كشعورها بالسادية في أوقات متلاحقة ، في أوقات المساء تبكي سراً على وسادتها ، لا يشعر بها ، يكفي أن يذهب إلى عمله المرموق كل صباح ، وتبدأ في البحث عنه ، أى ندم يلاحقها كأنها المخطئة بحقه ، وكيف وأين تبحث عنه لم تعلم " سهر" أن بيوماً ما ستعود إليه أو تسامحه على ألام لحقت بها منه ، أو تستكمل حياتها بدونه .
كانت أصابعها ترتعش كلما خطت بإسمه على اوراقها ، تنتظر في كل لحظة أن يصفر لون الورق وتمحي مذكراتها .
في الوقت الذي عاشت فيه مع جدها وقد تخط التسعين من عمره ، كان بالنسبه لها الحياة بأكملها ، حنان ، وتفاهم ، كلما تعود من جامعتها ، ترتمي إليه وتبدأ في سرد حياتها اليومية ، تذكرت أن عند دخولها الجامعة لم تتعرف على أحد ، كأنها لم يعجبها من فيها ، تبحث عن مميزات كثيرة ، هى ايضاً جاءت لتتعلم لا لأن تحب أو تصادق احداً ،كانت دائماً طموحتها أن تتفوق لتسافر ، وتصبح احدى الكاتبات اللامعات ، هكذا يناديها جدها " أنتي كاتبتي الصغيرة " ...
تضحك وهى تلمح عينه تسجد إلى حلمها ، وتصلي في خشوع ، تحبه لأن ايمانه بها واضحاً في كل حركة يقوم بها معها ، انهت الدراسة ،كانت في السنة الرابعة ، اجتازت الثلاث سنوات بنجاح ، نصائح جدها تحفظها لدرجة أنها كتبتها ووضعتها كسلسلة ترتديها في عنقها " أنتي كاتبتي الصغيرة " ، كثيراً حاولوا التقرب منها لكن حلمها اقترب اكثر كأنه واحداً منها يتوغل داخلها .
حياتها داخل الجامعة مختلفة عن صديقاتها تستمع إليهم في كل لحظة عن حبيب يدخل إلى قلوبهم الصغيرة ، تؤكد لنفسها أنها احاسيس المراهقة ، تكفي أن تستمع إليهم دون أن تعلق بشئ .
كانوا يتسابقون في كسب قلبها ، في المراهنة على الحديث معها ، يسمعون ضحكتها أو أنها تقترب من بعيد فيحاولون مغازلتها ، شعرت أن شخصاً من بعيد دائماً يراقبها ، تلمح الحزن بعينه ، كأن شيئاً ما يجذبها إليه ، لم يكن وسيماً بالقدر الكافي ، ملابسه عادية ، لكن تشعر أن اهتمامه بخطواتها تلفت انتباهها ، كذلك جديته في الحياة ، طريقة جلوسه ، نظراته ، لم تلمحه يوماً ما يجالس فتاة أو يصافحها ، مااثار اعجابها ، كان ينتظرها كل يوم أمام باب الخروج ، ينظر إليها ويرحل ، تكرر الأمر مرات ، حديثها دائماً مع جدها عنه ، ابتسم إليها وطبطب على شعرها الناعم وراح يرفع خصلاتها لأعلى وقال:
_اذا تحدث معكِ قولي له أنني اريد أن اراه واتعرف عليه .
فرحت كثيراً وكادت تبكي على سذاجتها ، مشاعرها قادتها ، اهتمامه في كل مرة ، انتظاره ، نظراته إليها ، كأنها تنتظر اللحظة التي يأتي ليتعرف عليها ، كان يومها المعتاد ، تشعر بالإرهاق ، لم تراه مثلما تراه كل يوم ، حزنت ، وعادت تستذكر محاضراتها ، اقترب ميلادها ، احتفلت به وسط اصدقائها وجدته أمامها ، يطلب يدها ، اندهشت من جنونه ، لا يعرفها كيف نطق بذلك، قال لها أنتظرتك طويلاً ،
ثم وضع لها وردة اعلى شعرها المنسدل على كتفها ، فأبتسمت خجلاً ، وراح من حولها يصفق تصفيقاً عالياً ، لا لم تبكي من فرحتها ، أو تذهب إلى جدها مسرعة لتحكي له ماحدث، ربما لأنها شعرت أن شخصاً سيسرق حلمها في أن تكون كاتبة مرموقة .
كان يومها المنتظر لبدء خطبتها ، وقف أمامها فتحت له باب المنزل هو باب السعادة بالنسبة إليه ، أنيقاً للغاية ، عطره مميز ، نظراته قوية هى التي رأتها اول مرة ، قالت له بإبتسامة :
_تفضل .
اقترب من جدها وبدأ الحديث عن نفسه ، وأن بعد انهاء دراسته سيسافر ، كان الإرتياح الحد الفاصل بينهم ، فقال له جدها ، هذه كاتبتي الصغيرة ..
فرد عليه في ثقة :
_لن امنعها عن حلمها .
شعر جدها بالأمان تجاهه وبصدق كلامه ، تمت الخطبة في سرعة بالغة ، انهت دراستها في الصف الرابع بتقدير جيد ، وقف أمامها وقال لها :
_غداً سأسافر ، سنحقق حلمنا .
حدثته ببردوة :
_الله معك .
حاول أن يفهم طبيعة شخصيتها ، وعدها بأن يحدثها كل يوم وأن يرسل إليها باقات من الزهور ، لم يهمها مايقول ، كأنها الطريقة التي تتخذها معه كى يبقى على وعوده معها ، بدأت الوحدة تتسلل إليها ، حتى الكتابة لم تتقنها مثل البداية ، كأن كل البدايات جميلة ، ومع التكرار تفقد رونقها ، كانت تنتظره بشغف
لم يرسل اليها باقات الزهور أو خطاباً يقول لها عن حياته هناك ، حاول جدها طمئنتها ، مسك يدها ، شعرت بالدفئ من جديد ، وجدت الهاتف يرن اسرعت إليه ، لم تقل شيئاً انتظرته أن يقول لها "وحشتيني" .
لكن حدث عكس ماتوقعت ، لم يتحدث بلهفة ، قال لها :
_سيأخذ الأمر هنا طويلا ..لن أعود إلا بعد عامين بالكثير .
تقطعت كلماتها ، فردت :
_حبيبي لا يهم ، طمني عليك ، ماذا تفعل في غربتك .
توقعت أن يقول لها أنه يفتقدها وأن اشتياقه إليها يفوق حبه مرات ومرات .
انهت المكاملة حزينة جداً ، بدأت تفكر في كل لحظة تجلس فيها ، تحاول أن تطرده من ذهنا ، هل يكفي أن يتركها سنتين دون أن تراه ، لم يسمع أهاتها إلا جدها ، راح دائماً يرسل إليها ورد وفي البطاقة "حبيبتي سهر انتظريني " ، فرحت كثيرا ً، كان يكفي جدها أن يرى الفرحة بعيونها الصافية ، نادماً في ذات اللحظة على مافعله تجاهها ، كيف له أن يضحك عليها ويرسله إليها ، طرد الفكرة من رأسه وراح يفرح معها ، عادت تكتب من جديد ، يرى دائماً صورتها تزين الجرائد ، نفث غليونه وقرر أن يحدثها ، كانت منهمكة مع الأحاديث التليفزيونية ، وحوارات الجرائد ،شعرت أن حلمها تحقق ، وأن حياتها تبدلت ، لم تجده بجانبها ، الغربة انهت مشاعرها تجاهه ،توغلت رائحة قسوته إلى قلبها .
هاتفها ، اراد أن يبارك لها ، لم تلومه على غيابه في الحديث معها طالما يرسل إليها باقات من الزهور تعبيراً على اهتمامه بها ، وهى لاتعلم الحقيقة ، قال لها :
_لن اعود ابداً ، سأرسل لكِ لتلحقي بي .
بكت له ، ووجهت إليه اتهامات بأنه على علاقة بأخرى ، وأن مايفعله من أجلها لم يحدث ابداً ، أكد لها أن ماتقوله ليس صحيحاً ، لم تؤثر دموعها عليه.
عدَ من الوقت عام ، شيئاً صعباً بالنسبة لها ، كان اصقل وقت شعرت به ، انتقلت للعيش في مكان أخر مع جدها ، كانت وحيدة كما هى وماالجديد ، الوحدة رفيقتها ، حاول جدها أن يخبرها بأن شخصاً ما تقدم إليها ، اقنعها أن مركزه حساس ، بعد أن اخبرها أن خطيبها ارسل إليها دبلته ، لأنه لم يستطع أن يأخذها معه ، فوافقت مجبرة ، تم الزواج في وقت سريع .
أن تحمل لقب " زوجة " و" امرأة " امراً مؤلم للغاية ، أن يغتصب شخصاُ لقباً منك وأنت لا تحبه هو العذاب ، هكذا شعرت معه ، كان قاسياً معها للغاية ، في السنة الأولى من الزواج ، يغلق هاتفه ، ويجلس وحيداً في مكتبه منهمكاً في كتبه يقرأ ، تدخل إليه بفنجان القهوة ، فينهرها :
_ يجب أن تستأذني قبل الدخول .
بادرت بالإعتذار ، مركزه المرموق في الدولة سيطر على شخصيته ، اصبح حاداً ، قاسياً ، أكثر أنانية .
خرجت واغلقت الباب تلملم جزءاً من كرامتها ، كيف له أن يهينها هكذا ، طلب منها أن ينفصل عنها في غرفة مستقلة ، وافقت ، دائماً يأخذ الفطور في الصباح بدونها ويرحل .
تمنت لو انهت حياتها ، كانت دائماً تكتب ماتشعر به ، قررت أن يكون موضوعها عن أنانية الرجل ، وقسوته المفرطة ،عن حب عمرها الذي ضاع وتحول لرماد ، عن حياتها البائسة ، وأن يكون اسمه "إلى كل رجال العالم البؤساء" يهمها أن يصل إليه إلى خطيبها إلى زوجها ، إلى كل رجل يحاول أن ينتزع شيئاً من المرأة برغبة متوحشة ، بدأت في كتابة مذكراتها ، بالفعل حققت نجاحاً عظيماً ، شعر زوجها أنها تخصه في الكتابة فقرر أن يطلقها حفاظاً على منصبه ، عادت تجر اذيالها إلى بيت جدها ، لكنها محققة انتصاراً كبيرا ً..
اطلعها جدها أن حبيبها عاد إلى مصر ، ويطلب مقابلتها ، انهارت ، ثم راحت تصمد من جديد ، رفضت ، تمردت وتمنعت ، قال لها جدها :
_لم يتزوج حتى الآن ، خسر كل شئ هناك ، كان قلقاً عليكِ أن يظلمك معه فقرر أن ينسحب .
قالت له :
_هل صدقته !
_نعم ، الرجل ياحبيبتي يكون صادقاً جداً عندما يبكي ، يصبح قلبه كقلب طفل صغير برئ .
انتفض قلبها ، عندما سمعت كلام جدها ، وقالت :
_لا ياجدي أنا ايضاً بكيت كل سنوات حياتي ، من يعوضها لي .
راحت ترسل له :
_ لا اريد أن اراك ارحل من حياتي .
قامت بندوات ومؤتمرات ، لفت العالم ، كتابها الاكثر مبيعاُ على الإطلاق ، تأتي إليها اتصالات بأن إنصافها لقضايا المرأة في محله ، وما فائدة الحب إن لم يكُن في هيئة رجلاً حقيقياً .
_