في الحانة البعيدة جالساً يترقب الماره ، يبحث عن شئ يفتقده ، كلما مرت أمامه إمرأة ينظر إليها نظرات إعجاب يظن أن واحدة منهم مصدر إلهامه ، يضع فرشاته ، يرسم ملامحها ، هى التي تجلس في نفس الحانة ، تتناول كأس نبيذ ، تداعب وجهها تتأمله في المرآة الأمامية ، تضع أحمر شفاه ، وتعاود الشرب من جديد ، يترقبها كلية ٍ ، يحاول رسم ملامحها ، لم يستطع، شيئاً ما يجذبه إليها ، كأنه يحاول الإقتراب شيئاً ما يمنعه ، خجلها المرسوم على خديها ، اتجه إلى النادل ليخبره عنها ، لكنه فشل ، قال له :
_ هذه السيدة التي هناك ؟
_ نعم . هل تعرفها ؟
_ لا، تتردد علينا كثيراً ، لا تجالس احداً ، كل ماتفعله تشرب كأساً واحدا ًوترحل .
طلب منه أن يرسل إليها باقة من الكلمات الرقيقة في ورقة صغيرة معطرة ، اتجه إليها مبتسماً وقال لها :
_ تفضلي سيدتي هذه لكِ.
نظرت إليه بإندهاش ، ترك النادل الورقة ورحل ، راحت تفتحها بهدوء ، ثم تركتها ورحلت دون أن تلتفت إليه أو تبحث عن صاحبها .
اثارت حيرته ، ذهب إليها مسرعاً ، كانت فواصل عديدة بينه وبينها ، ركبت سيارتها ورحلت ، لم يحاول الوصول إليها أو ملاحقتها بسيارته ، ظل يتردد على الحانة كثيراً لعله يجدها من جديد ، لوحاته فارغة وجهها فقط ،عينيها ،شعرها الأسود يسيطر على مساحته الفارغة ، يومان ..اثنان ..ثلاثة .. أى طينة معجونة بها ، كيف لها أن تجذبه وهو الذي في كل يوم يتبادلهم بين الحين والأخر ، لم ترفضه أمرأة من قبل ، لم تتمنع أو تتمرد عليه ، يعلم جيداً مفاتيح كل شخصياتهم ، كيف يصل إليهم بسلاسة ويسر ، يعرف أن لوحاته التي تنتشر في معارضه بباريس هى لوحات لكل امرأة تسجل حوافرها على ظهره في ليلة حمراء ، يستطيع أن يخرج منها بلوحة لا تختلف عن لوحات دافنشي ، هو يعرف أن بيكاسو لم يستطع أن يجذب إليه أمرأة واحدة ، فيثق أن لو كان بإمكانه أن يضاجع واحدة منهم لكانت لوحاته خالية من السيريالية وربما الأشكال التكعيبية التي تطوقها.
اتجه إلى منزله وحيداً ، يفكر ، يشعل النور ، ويعود ليغلقه ثانية ، ويعاود فتحه ، استمر حتى الصباح ، لا يريد منها كما اراد مما عرفهم قبلها ، احياناً يبرر افعاله الدنيئة مع غيرها وتلك ، بحجة أن تصبح لوحاته متحررة تنطلق فيها المرأة بحرية ، بجنون ، تذكر وجهها الحزين عينيها الخضراء ، ردائها المتناسق ، شعرها الأسود ، عطرها المتبقى على كأس النبيذ من شفتها الصغيرة .
كان يستعد للمعرض القادم ،يعلم أن شيئاً ما يطارده ، دعاه أحد الأصدقاء إلى معرضه الجديد ، لا يود الذهاب ، لم يستطع أن يستكمل حياته بدون أن يراها ، لا يؤمن بالحب من النظرة الأولى ، يعلم أن نضجه يتغلب عليه ، عقله يسيطر كلما وجد امرأة لا ينجذب إليها ، إلا هى ، حركت جزءاً مات ، انتهى ، مشاعر تبدد عليها العقل وانتصر ، قرر أن يتجه كى يحيا من جديد ، كان موعد المعرض ، انتظر بالخارج صافح صديقه ثم هنئه عما قام به من خطوات جريئة ، نظر إلى اللوحات يتفحصها بشدة استوقفته لوحة تشبهها ، لعله يتأكد ، تشبهها جيداً ، كانت بجانبه تحاول البحث عن مكان آمن تستجمع فيه انفاسها ، لم يتمالك ذاته ، توقع أن الصدف شيئاً من الجنون ، لا تحدث إلا اذا اقترب صاحبها على الإنتحار لينجده احداً صدفة ، هكذا شعر ، اتجه إليها مد يده ، نظرت إليه بإندهاش ، لا تعرف ماذا يقول ، انتهز الفرصة كى يعبر عن مدى إعجابه بها ، خاف أن يتصرف كالمراهقين كالذين ينتظرون محبوبتهم ويطاردونها كلما مرت أمامهم ، سحب يده بعد أن رحلت من المكان ، استوقفها ، لم تسمعه ، قال لها :
_ انتظرتك كثيراً
ابتسمت ورحلت ، كتبت له :
_ اراك كثيراً في الحانة ، اشعر بإعجابك .
فرح كثيراً لكن الدهشة تملؤه يشعر كأنه طفل عاد إلى حضن ضاع في أن يلقاه سنوات ٍطويلة ، لماذا لم تحدثه هذا ماثار جنونه ، اطلعه صديقه أنها خرساء وأن حظه سعيد لأنها تحدثت معه ، قال له أن الوحدة رفيقاً لها ، وأن لا شئ يستهويها مثل لوحات الفن التشكيلي لذلك ربما يكون السبب في إعجابها به .
وقف أمام لوحته كثيراً بعد أن اتجه في كل مكان يرفض فيه العودة إلى المنزل ، وضع فرشاته لم يستطع أن يستكمل ، كل هذه التناقضات تسيطر عليه هو الطفل والرجل ، المراهق والناضج ايضاً ، القاسي والحاني ، لم يستطع أن يستكمل ماتبقى من وجهها ، كان صعباً عليه ، لماذا كل هذه القسوة تجاهها ، لماذا كل هذا العجز ، لماذا كل هذا الشلل ، اسئلة تطارده ، شعر أن صداعاً شديداً يتغلب عليه ، لا يقوى عليه ، حاول أن يبسط الأمر لكن دون فائدة ، انتظرها في الموعد المحدد داخل الحانة ، كانت فارغة لا احد سواه كأن موعداً يرتبه القدر لهما ، وجدها تجلس هناك ، تشرب كأسٍ من النبيذ مثلما رآها في المرة الأولى ، لكن أشياء كثيرة تبدلت عن هذه المرة مشاعره انقلبت عليها ، دون ذنب .
قرر أن يفاجأها بلوحاته ، كانت ملامحها جميلة ، لم يتبق إلا جزءاً بسيطاً من وجهها ، لم يكتمل فمها ، ربما لأن تفكيره بها سيطر عليهه ، نظرت إلى اللوحة ، تلمستها برفق ، وقفت عند المساحة الغير مكتملة ، وضعت يدها على فمها ، وراحت تبكي بشدة ، نظر إليها ، توقع أنه قد تعدى على خصوصيتها وأن انتصاره في جرحها قد تغلب عليه ، وجدت فمها الصغير لم يكتمل ، شعرت بعجز كبير منها تجاهه ، وقد كتب أسفل لوحته :
_ سامحيني لم اعرف هل هذا حب أم شفقة ؟ !