أحداث الرواية من خيال المؤلف ، وأي تشابه بينها وبين الواقع فهو متعمد
فلا إدارك للواقع بدون النظر له من شُرفة الخيال
ـ المنام والقدر ـ
( 1 )
ليل قاتم كالح السواد ، يلف القاهرة الفاطمية ويحيط بها من كل حدب وصوب .
الشارع خالي من الناس ، وكأن المكان قبرا لا يُسمع فيه سوى هواء الخلاء الصامت
وتتلألأ مآذن وقِباب الجامع الأزهر ، عن طريق مصابيح وفوانيس ، وكأن الزمن في عصر سحيق وزمن بعيد .
حول الأزهر يأتي صوت فحيح أفاعي ضخمة الحجم وكبيرة الرأس وحادة الفك .
تحوم الأفاعي بطريقة خبيثة وملتوية باحثة عن فريسة ولو كانت حشرة ضئيلة .
ثم تبدأ في الصعود لأعلى الجامع الأزهر عن طريق جدرانه .
ولكن ضراوة جوع الأفاعي جعلها تتقاتل مع بعضها البعض ، وتتلطخ جدران الأزهر بدماء الأفاعي القتيلة .
عن بُعد يُسمع صوت حوافر الخيول مع صهيلها ، مصحوبة بصليل سيوف يمسك بها عدد من الرجال المتزينين بملابس خضراء وعلى رأسهم عمائم أزهرية .
يتقدمهم فارس ويتوجهون صواب الأزهر ، وينقضوا على الأفاعي قتلا وتقتيلا وقطعا وتقطيعا .
تُسمع أصوات رخيمة غير جهورية بيد أنها قوية ، وتنشد مصحوبة بأصوات دفوف .
وينشدون قائلين
الله خصهم بالنصر والظفر * أنّي يكونوا فلا يخشوا من الضرر .
يخيم الهدوء على المكان
يترجل الفارس عن جواده ويسير في إحدى شوارع القاهرة الفاطمية ، ناظرا حوله بعينيه دون أن يحرك رأسه ، ينظر يمينا ويسارا .
وكبرق خاطف ووميض خافت ، يلمح الفارس المترجل ظل شيء غريب تحرك .
ينظر الفارس بنظرة حادة محاولا أن تخترق عيناه قلب الظلام ليعرف من المُتحرك ، ثم يسمع صوت تحركاته خلفه وأمامه ومن الأعلى .
يرجع الفارس للوراء قليلا عندما يسمع صوت قادم له ، وكأنما ديناصورا جاء للفتك به .
يأتي صاحب الصوت وإذ به حيوان غريب الأطوار ، جسده جسد تمساح وحجمه حجم الفيل ، ورأسه رأس ذئب .
يُشهر الفارس سيفه ويقاومه ولكن كلما يقطع له ذراعا أو إصبعا ينبت ذلك الأصبع مكانه .
وفجأة ، ينطلق صراخ نسوة تقوم بالندب والنواح ، ومعها صوت الأذان ، وعن قُرب من الأعلى صوت قعر طبول .
تهتز الجدران وتتزلزل الأرض ، ويخرج دراويش من جدران البيوت ، وأزقة وحواري المنطقة الحسينية ، بنبابيت وفئوس وسيوف ، صارخين بـ ” يا دايم مدد حي ”
يهجم الجميع على ذلك الحيوان الغريب ويتمكنوا من قتله ، ويتنفس الفارس الصعداء .
يجيء طابور نسائي متشح بملابس سوداء ، وأصغر النسوة تبلغ من العمر 70 عاماً ، فيأخذوا الفتى وكأنما في موكب جنائزي ، حتى يصلوا لحمام قديم .
يكون في انتظاره امرأة عجوزة تناهز الـ 100 عام وبشرتها بين السمار واللون القمحاوي ، وتطلب منه النزول للحمام ، فينزل بملابسه .
تُخرج المرأة ليفة جذع نخلة ، وتشير بيدها لإحدى السيدات الواقفات حولها ، فتعطيها غرابا .
تقوم المرأة بذبح الغراب بأسنانها ، وتُنزل الغراب بدماءه في الحمام ، وينتشر الدم في الماء ، فتقوم المرأة بإمساك رأس الفارس وتغطسه في الماء الدامي
ينزل في فوهة تُخرجه لشاطئ على شكل حديقة كبيرة ، يتلقاه عبدين أسودين ، ويُلبسونه حلة بيضاء مزركشة .
على امتداد البصر يقف في صفين طوليين ، شخصيات تاريخية عديدة يتقدمهم الزعيم عمر مكرم والمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي .
يأخذ الفارس من الجبرتي كتابا أخضراني اللون ، ويُمسكان بيدي الفارس ، متوجهين إلى ربوة خضراء درجاتها من الفضة ومفروشة بسجاد أحمر
وأعلى الربوة عرش رأسه عمامة أزهرية ، وخلف العرش الجامع الأزهر .
ويصعد الفارس ويجلس على العرش ، ويهيم الناس فرحا ، ويرفع الفارس يده ليضم أصابعه في قبضة ، ضارباً بها قلبه ويخرج منه عصفور النورس على رأسه بحجمها عمامة أزهرية، معلق في رقبته خيط مربوط فيه كتاب أخضراني ولكن بحجم صغير ، يحلق النورس فوق الناس ، ثم يطير صوب الجامع الأزهر ، ويلف على المآذن والقِباب ، ويحنو برقة رقيقة عن طريقة جناحيه على إحدى مآذن الجامع كأنما ينظفها أو يعطي طعاما لطيور تسكنها ، ويستمر في التحليق لأعلى إلى أن يتوقف فجأة إثر نزيف دم من فهمه الصغير ، ويهوي الطائر إلى الأسفل ليستقر ميتا بجوار قبة الجامع الأزهر مودعا الحياة مبتسما ، لينطلق بعدها أذان الفجر .
( 2 )
يستيقظ الشيخ علوي الزعفراني من نومه ، ذلك الرجل الستيني ذا اللحية البيضاء المهذبة ، وهو في حالة هلع ، متنفسا الصعداء ، مستعيذا بالله من كابوس رآه ، يمد يده إلى الكوميدينو ، ليتناول رشفة من الماء ، وفي شربه يستمع إلى صوت زغروطة ، فتدخل زوجته شكرية ، وهي في قمة السعادة والابتهاج
- مبرووك ما جالك يا شيخ علوي
- الله يبارك فيكي ، خير إن شاء الله
- بنتك علا جابت مولود زي القمر ، أول حفيد ليك
” يضع الشيخ علوي يده على صدره كأنه مقبوض ، فتلاحظ شكرية ذلك فتقول ”
سلامتك يا علوي ، مالك ؟
- لا مافيش حاجة ، يمكن عشان كلت أكلة تقيلة
- أجيبلك فوارة ؟
- لا يا شكرية ” يبتسم لها ثم يقول ” البنت عجزتنا
- عجزتنا !! اسم الله عليّ ، أنا لسه في عز شبابي ، الدور والباقي عليك
- ” يضحك ثم يقول ” في دي عندك حق
” ينهض ليتردي عباءته ثم يقول لها وهو يميل عليها ” إنتي أحلى من بنتك يا شكرية
ـ طول عمرك بكاش
- البكش دا يكون عشان مراضية ، لكنه مش موجود لما نتكلم عن الحقيقة ، ألا بالحق ، هو نادر جوز علا فين ؟
ـ اتصلنا به واهو جاي من شغله
- طب يالا نشوف عُلا
- مستنينك تحنكه وتأذن له عشان البركة
- البركة بركة المنشأ الطيب والتأسيس الحلال ، ربنا يجعلنا من اهلهم ويديم عداوتنا مع الحرام احنا وأحفادنا وكل من يدل علينا
( 3 )
تستلقي عُلا على سريرها وبجوارها وليدها ، وتتصبب علا عرقا وتبدأ في التقاط أنفاسها ، ويدخل عليها والدها ووالدتها
فيبادر الوالد بالاطمئنان عليها
ـ حمد الله على سلامتك يا بنتي
ـ الله يسلمك يا بابا
“ينظر لها بابتسامة حانية ، ثم يجلس بجوارها ، ويضع يده على رأسها قارئا في سره بعض آيات القرآن الكريم
عقب انتهاءه من القراءة ، ينظر لها بابتسامة رقيقة قائلا لها “-
ـ شكلك تعبتي يا علا
ـ أوي يا بابا ، أوي ، كأنه مش عايز ينزل وبيقاوم عشان مينزلش ، تفتكر دا معناه إيه يا بابا
“فتقول الأم بضيق بسيط وانفعال ضئيل “-
ـ يا بنتي استهدي بالله ، مافيش حاجة ، البكرية كده ، أول خلفتها بتكون شديدة ، حتى اسألي أبوكي أنا كنت عاملة إزاي وأنا بولد فيكي
ـ ساكت ليه بابا ؟
ـ ها ، لا مافيش ، أمك عندها حق ، بس هي كانت أشد منك ، دي ولدتك منها وقامت عملت ليا صينية بطاطس من هنا
ـ لا كمان يا شيخ علوي ، دا كمان عملت رز بلبن ووزعته على كل اللي مجاورين سيدنا الحسين
ـ بس ستات زمان يا ماما غير ستات دلوقتي
ـ ليه ستات زمان كانوا من كاوتش وستات اليومين دول من اسفنج
ـ لا يا شكرية ، ستات زمان كانت بتاكل رطل السمنة البلدي كأنها بتاكل علبة زبادي ، لكن ستات اليومين دول مش بيستحملوا حتى ريحة طشة الملوخية
” يضحك الجميع ثم يقول الشيخ علوي ” :ـ فين حفيدي ؟
ـ أهو يا بابا ، جنبي
” يحمله علوي مُبسملا ، ثم يُرقيه ، ويحنكه بتمره رطبة رقيقة ، ويضمه له وكأنما يريد أن يقول إنه لي لوحدي
ثم يدخل نادر زوج علا وكأنما جاء من مسابقة جري ، فتقول له شكرية ”
ـ هههه شوف الراجل متسربع على الخلفة إزاي
ـ ” يقوم ملاحقا أنفاسه ” الخلفة دي هتحمل إسمي ، بس أساس وجودي هو حبي لمراتي
ـ طب يا أخويا ، مراتك عندك أهي
ـ رقيته يا عم الشيخ علوي ؟
ـ طبعا ، ودي محتاجة سؤال ، دا هيكون إن شاء الله بركتنا كلها
” يجلس نادر بجوار زوجته ويبتسم لها ثم يقول ” والله وبقيتي أم يا علا
ـ الحمد لله يا نادر
ـ سميتوه ولا لسه
فيقول الشيخ علوي :- أنا هسميه
ـ هتسميه إيه يا بابا
ـ فريد
ـ اسم حلو أوي يا بابا
ـ ربنا يجعل من اسمه مسمى له ، شكرية ، يالا نسيبهم مع بعض شوية ، بلاش نبقى عوازل
ـ لا يا عم الشيخ عوازل إيه بس ، دي بنتكم وأنا مش غريب
ـ يا واد افهم ، مراتك لازم تكون جنبها انت دلوق
ـ ليه هي تعبانة
ـ يا ابني لا ، افهم ، الست لما تولد ، مش بتحتاج لحد جنبها غير جوزها ، وبتعتبر نفسها مع جوزها في تكريم منه لها بعد ما زرعت وحصدت
محتاجة كلمة طيبة ، وابتسامة حلوة فيها كل الأمل
“يميل عليه هامساً ويقول ” :ـ وبالمرة تحسسها بأنوثتها ، أصل فيه ستات بتحس إن خلفتها هتكبرها في السن فليه تتعقد ، وخصوصا لو كانوا ستات جميلة زي مراتك
” بصوت واضح يقول ” يالا بينا يا شكرية ، شيل ولدك عني يا نادر ، وانتي اتغذي يا علا ، أمك هتعملك أكل صحي يقويكي
“ينصرف علوي وشكرية ، بعد أن يحمل نادر ولده
ينظر نادر لزوجته مبتسما ويقول لها ”
ـ تصدقي شكلك أحلى من أول ليلة اتقفل علينا فيها باب واحد
ـ وانت تعرف إن دلوقت حاسه إني بنتك وانت بتبص عليا دلوقت بكل حنية
ـ الحنية متبقاش حنية إلا لو كنتي في عرش قلبي ملكة
ـ والملكة متبقاش ملكة إلا لو كنت انت تاج على راسها
( 4 )
رياح خريفية ، تزيح أوراق شجر يابسة من على أرض ليست بالإسفلتية أو الرملية ، في صباح تظهر فيه الشمس على استحياء من خلف منزل عتيق وقديم .
يُسمع من حول المنزل أصوات صقور ليست بالظاهرة ، وتُفتح الأبواب الضخمة لهذا المنزل ، لأناس يبلغون من العمر عتيا في موكب له هيبة ، لملابسهم البيضاء وعباءتهم الخضراء وعمائمهم الأزهرية ، وكل واحد منهم يمسك مسبحة طويلة .
يدخلون متوجهين عبر سُرداب ليس بالمظلم ، تضاء منه مصابيح ، والمنظر كله يخيم عليه أنه في فترة تعود لعصر مصر عندما كانت ولاية فاطمية ثم أيوبية فمملوكية ، وقبيل الحقبة العثمانية .
وينتهي بهم السرداب الطويل إلى قاعة فخمة ، كل ما فيها من الأرابيسك ، عدا الكرسي الأكبر القابع آخر القاعة ، المُذهّب والمُطرّز بفصوص خواتم كبيرة ، ولا يراه أحد جيدا لانتشار البخور في المكان .
يجلس من دخل في مقاعدهم .
يأتي رجل كبير في السن ، ضخم الجثة ، طويل اللحية البيضاء ، في عينيه شدة وقوة برغم ما يتوارى خلف صوته الجهوري الرخيم من كلمات متهدجة فيها رسائل الوهن .
بمجرد دخول الرجل الكبير يقف الجميع إلى أن يجلس ، ويطأطأ رأسه كأنما يشرع في النوم
إلى أن يستيقظ عندما يسمع دفوف الدراويش ، فينظر إلى الضوء الذي ينزل من سقف القاعة ، ويبتسم بطريقة أخاذة ، وينسجم برأسه وجسده مع الطبل وكأنما يستمع لسيمفونية موسيقية
ثم يرفع كفيه بطريقة عازف البيانو ويستمر في الانسجام ، مغمضا عينيه بابتسامة ، ثم يضم كفيه ويقربهما ناحية فمه ، وكأنما يقرأ ، ثم يتنفس نفسا عميقا ويُجرِي كفيه على صدره وذراعيه
ينظر لمن حوله ويقول لهم
ـ اخترت السيد ، خليفتي في العالم ، بدون ما يجلس على كرسي ولا عرش
راعوه بالبركات ، واحموه من الموبقات ، اشملوه بالرعاية ، وإدوا له الوقاية
علموه وعرفوه إن السفينة على البر أهى راسية و البحر غريق ومالهوش قرار فمش لازم يعاند ويعوم ضد التيار
كل الدروس دي لازم يتعلمها ، من سر الفاطمية وجمال الآل الكرام وجلال الأزهر المهاب
لأنه هيكون سيد العالم اللي محدش هيعرف قراره ولا سره غيره ، هيكون بين الناس لكنه مش معاهم ، وهيتعايش وسط الناس بينا لكنه مش هيعيش معانا بيهم