لمسعد أبوفجر بين معتقلي سيناء، عشرات مُفرج عنهم وثلاثة آلاف مازالوا بالسجن، خصوصية تتعلق بتاريخ العلاقة بين أرض الفيروز وأرض الوادي.
لم يأت وعي "البدوي" أبوفجر بحتمية انتمائه الوطني من فراغ، خُلق معه.. مثلي ومثلك، مدعوماً بذكريات لها خصوصيتها الجغرافية، عن بطولات منظمة سيناء العربية و"الفخر" بنضالها.
في شهادة علنية له، مع المصري اليوم، أشاد اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية والعامة سابقا، ببطولات أهلنا في سيناء، ووفق تعبيراته الحرفية "ضربوا المثل في الوطنية في أحلك الظروف، ورفضوا كل إغراءات إسرائيل أثناء الاحتلال".. "عندما بدأنا الإعداد للحرب تعاونوا معنا، ولم تحدث حالة خيانة واحدة رغم أهمية وحساسية مهامهم". كانوا عيونا طبيعية لأجهزتهم على عدوهم، هم من "أبلغنا أن الجسر الجوي الأمريكي وصل إلى العريش، وأن هناك كوبري يتحرك للقناة، استخدم في الثغرة، ومعلومات أخرى كثيرة".
لكن الأكثر وجعاً للعدو كانت الفضيحة المدوية التي "رتبها" أبناء أرض القمر مع عاصمتهم، القاهرة، وأجهزتها السيادية بتنسيق مباشر مع جمال عبدالناصر، في (مؤتمر الحسنة) نهاية أكتوبر 1968. حينها، توهمت إسرائيل أنها نجحت في عزل قطاع من البدو عن أمهم، وخيرتهم جولدا مائير بين إعلان انضمامهم للدولة العبرية.. أو دولة مستقلة لهم. بعد عرض مائير، أبلغ المحامي سعيد لطفي عثمان المخابرات المصرية، وبناء على طلبها سافر إلى العاصمة الأردنية للقاء اللواء عادل فؤاد قائد مكتب المخابرات العامة بالقاهرة والمسئول عن تنظيم مجاهدى سيناء والموفد من عبدالناصر، وهناك تم رسم سيناريو فكرة المؤتمر. أقنع أهلنا الاحتلال بتنظيم مؤتمر ضخم تُدعى له وكالات الأنباء والصحف العالمية، لتفاجأ مائير على الهواء وأمام حشود إعلامية وتجهيزات سينمائية هوليوودية، بمشايخ وأعيان البدو يعلنون من على منصة بناها الصهاينة: سيناء مصرية وستظل مصرية، أرضاً وبشراً. كمين بدوي قاهري، لم يخل من "خفة الدم" المصرية المعروفة، أعقبه اعتقال فوري لـ120 من مشايخ وشباب سيناء، على رأسهم الشيخان بن خلف وسالم الهرش والمحامي سعيد عثمان، ولد 1930 وتوفى 1998، كان رئيس دولة سيناء.. المتوقع.
في جعبة أبوفجر، ومُجايليه، حكايات سمعوها من الأمهات والجدات عن بطولات عفوية شاركن فيها، مساعدة في إخفاء، أو إنقاذ، جنود مصريين، وجبة طعام بدوي طبخنها لبعضهم، وعدني مسعد بتذوقه مع ابني في دعوة لم تتم.. أعتقل بعدها بأيام.
أبوفجر، المثقف السيناوي "الوحيد" الذي جمع بين المشاركة في حراك سيناء.. والقاهرة. نشط فيها عبر دار ميريت التي أصدرت طبعتي (طلعة البدن)، الرواية التي لعبت دوراً موازياً لدوره هو نفسه في "أنسنة" قضية بدو سيناء، وتقريبها لباقي المصريين. فهي ليست فقط قضية أمن قومي.. الأهم أنها قضية "بشر/ مواطنين" لهم خصوصيتهم المنتهكة وحقوقهم المهدرة. في أول نقاش جمعنا، لم ألتقط بدويته إلا بعد فترة ليست بالقصيرة. فهو لا يتعمد تصديرها.. ولا إخفاءها، يفخر بها، ولا يراها عائقاً أمام تحركه وتعايشه مع أهله من باقي الوطن. كان يتحرك كمثقف "عضوي".. لا ضيف على العاصمة.
لم يطرح أبوفجر في نقاشاته غير ما طرحه أهلنا في سيناء، فقط.. حق المواطنة. وهو، كما هم، يتفهم الظروف الخاصة لـ"إقليم" سيناء، لهذا كان طلبهم أن تتعامل معهم الدولة عبر الأجهزة السيادية التي أجادت التواصل معهم طوال عقود الاحتلال، وبعد التحرير بسنوات، إلى أن "استلمتهم" الشرطة، لتشرخ علاقتهم بأمهم. كان أبوفجر متمسكاً بالحراك السلمي، يؤمن بدولة مدنية في عموم مصر، لا يرحب بـ"عسكرتها"، ويعي أن الشرطة هي ذراع تطبيق قانونها.. لا البطش بمواطنيها، لكنه أمام ظروف إقليمه يشدد على ضرورة إشراف "سيادي" على أداء الشرطة.. لفرملته عند التجاوز، حتى لا يتحول الحراك السلمي إلى مواجهات عنيفة. وأشهد، مع زميلي ورئيس تحريري الأستاذ عبدالله السناوي، أن أبوفجر كان ضد أية تحركات مستفزة على الحدود، وتمسك بنقل الاحتجاجات إلى داخل الوطن، ووقف بحسم ضد أول بذور التهديد بالتعرض لخطوط الغاز، مقنعاً زملاءه في الحراك السيناوي بأنها "بتاعتنا كلنا كمصريين وليست ملكا للحكومة".
دائما ما حذّر أبوفجر من "غضبٌ يورثُ السوداءَ/ حقدٌ يأكلُ الأسوارَ التي تعلو ببطءٍ"، كما كتب الشاعر السيناوي (سالم أبوشبانة) في قصيدته (العالم يتربص بي). كانت تحذيراته قبل 30 شهراً، وبعد اعتقاله وتمادي القبضة الأمنية في سلوكياتها المُهينة للبدو.. أصبح التهديد واقعاً مُعلناً. ولم يكن مدهشا أنه صدر عن حلفاء سابقين للشرطة، تحركوا ضد حراك البدو. أحدهم، سالم لافي، حاول تصفية أبوفجر ودهسه بسيارته بتحريض مباشر من الأمن، قبل أن يعود سالم ليعلن ندمه عما فعله في حوار مع الزميل (محمد علي الدين)، كان سبقاً مهنياً حين نُشر جزء منه بجريدة الدستور قبل ثلاثة أسابيع. سالم أحد أبرز المطلوبين أمنياً الآن.
في كل قراراته، يؤكد "لا نظام" مبارك أنه لا يعي أبسط مقومات الدولة. أمنياً، يصر على تأكيد توصيف الأستاذ هيكل لأسلوب التعامل مع سيناء بخصوصيتها الجغرافية.. (ليونة على الأرض.. خشونة مع البشر). الخشونة عرفناها مع المفهوم "العنيف" الذي اعتادته الشرطة. ظل اللانظام يتعامل مع بدو سيناء، كما باقي الشعب، كـ"سقط متاع" مُرشح دائماً للاستباحة، فلم يع الأهمية القصوى وطنياً لتوثيق ارتباطهم بأمهم، وأصر على بقائهم في خانة المنبوذين اقتصادياً وسياسياً وجغرافياً. والليونة.. تترسخ مع استمرار إهداره لثوابت الأمن القومي في الظهير الشرقي لقناة السويس. من تركها فارغة من مقومات الحياة.. معرقلاً مشاريع "قومية" وُضعت فعلاً لملئها، إلى الرضوخ أمام ترتيبات أمريكية/ إسرائيلية، بسيناء نفسها.. أو برديفها الفلسطيني، ليجعلها أكثر فأكثر.. النقطة الأضعف في خاصرتنا.
يبحث أبوفجر عن علاقة جديدة مع واديه الأم، عن تداخل حقيقي مع "مصره"، وسعي لتحويله من علاقة فردية إلى جماعية. هكذا تحرك مع مجموعات من أهله للقاء مثقفين وسياسيين بالقاهرة، و"درّب" رفقاءه على كيفية طرح مطالبهم بوضوح، كجزء من الوطن.. لا مُفاوض معه. هل هذا ما أثار غضب اللانظام عليه؟ في بدايات اعتقاله "راجت إشاعات" أن القرار "سيادي"، مما دفع كثيرين ممن تعاطفوا مع قضيته، فيما بعد، لـ"التردد"، عدا مجموعة مثقفين تحركوا واعتصموا أمام النائب العام، وقدموا له مذكرات احتجاج، أبرزهم، مع حفظ التوصيفات: صنع الله إبراهيم، عادل السيوي، محمد بدوي، محمد هاشم، إيهاب عبدالحميد، حمدي أبوجليل، أحمد اللباد، جميلة إسماعيل. لكن دوائر التضامن اتسعت أكثر مع "التأكد" من أن قرار الاعتقال.. بوليسي، وأن التمسك به ليس أكثر من "لدد في الخصومة"، كما تعبير الزميل أحمد الصاوي في الذكرى الثانية لاعتقال أبوفجر.
قبل الإفراج عنه بأيام، ناشد الباحث المعروف د.نبيل عبدالفتاح وزير الداخلية.. ليس فقط إطلاق سراحه، بل أيضاً توزيع روايته (طلعة البدن) على الضباط الذين يعملون في سيناء، ليتعرفوا على البيئة الثقافية التي يتحركون فيها ويجيدوا "مهنياً" التعامل معهم. من هنا تأتي خصوصية أبوفجر، فهو كمواطن ومثقف "جسر" لم نره من قبل بين ثقافة الوادي وثقافة سيناء. جسر.. لو لم يكن.. لوجب على الدولة "اختراعه"، ودعمه بمئات الجسور المماثلة له، لترتبط سيناء أكثر، وتتواجد في، مع "مصر".. العاصمة، كما إسكندرية يوسف شاهين وصعيد عبدالرحمن الأبنودي وبحري محمد البساطي وبورسعيد محمد السيد سعيد ونوبة محمد منير.