fiogf49gjkf0d
السريح أو "على باب الله" رجل كسيب لا يندرج أبدا تحت فئة العاطلين، فهو يخرج كل يوم إلى الشارع يبحث عن رزقه، حاملا عدة الشغل، عمال اليومية هم من يرفعون الأحمال ويتسلقون "السقالات" عالياً دون الالتفات إلى خطر السقوط.
ونجده أيضا بائعا صغير للخضار أو فاكهة موسمية مثل التين الشوكى أو الموز، ينتشر فى الأسواق لينتشر سيارة نصف نقل يفرغ حمولتها، يصطف مع عشرات الأرزقية على الرضيف فى انتظار ريس عمال يؤمن لهم قوت اليوم، وفى نهاية اليوم يحصلون على اليومية التى لا تتجاوز بضعة جنيهات يتلقونها بنفس راضية عائدين إلى منازلهم، وتتوقف الساقية عن الدوران لحين شروق شمس صباح جديد.
وهكذا الحال كل يوم لأكثر من 11 مليون عامل مصرى يعمل بقوت يومه وهم الذين يطلق عليهم السريحة أو الأرزقية، حاولت "اليوم السابع" أن ترصد منهم نماذج مختلفة، فمنهم من هو قانع بلقمة عيشه الفقيرة لا يقول غير "الحمد لله"، ومنهم من هو ساخط على حاله وحال أهله، والبعض الآخر ممن حاول بعقله البسيط الوصول لحل لما يعانيه مع غيره من العمال من ظروف شاقة وأحوال مادية متدنية، فضلاً عن حياة الخطر والترقب التى تهدد بالموت جوعاً فى حالة توقف سوق العمل لعدة أيام لا يجد فيها العامل حق قوت يوم أسرته، وهو ما حدث بالفعل لشهور طويلة بعد الثورة.
فى إحدى المجمعات السكانية التى تقع تحت التشييد وقف "المعلم إبراهيم" – ريس الحدادين - مشرفاً على مجموعة كبيرة من العمال المنتشرين كالذباب فوق السطح الخشبى غير المكتمل، يعملون بنشاط وهمة كبيرة تحت توجيهات "المعلم إبراهيم".
"هات الحديد هنا"، "ربط كويس يابنى" هكذا تناثرت تعليماته على كل العاملين فى صمت، فهو رئيسهم جميعاً، يتنقل معهم من بلد لآخر بحثاً عن الرزق، ولكنه يتساوى معهم فى لقمة الغداء المشتركة ويومية آخر النهار التى بالكاد تكفى يوم بيومه.
"بقالى 30 سنة بشتغل صنايعى باليومية، أول ما بدأت شغل كانت يوميتى جنيه وربع، دلوقتى يوميتى 100 جنيه، وعندى 3 عيال مبلحقش أصرف عليهم"، هكذا بدأ المعلم "إبراهيم" حديثه لـ"اليوم السابع" عن حاله هو وأسرته، ويقول: "بعد الثورة الحالة كانت ضنك، مكناش لاقيين ناكل ومكنش فى شغل خالص، بعت هدومى أنا وعيالى عشان نلاقى لقمة، ومبدأش يتصلح الحال غير من كام شهر" يكمل الريس إبراهيم من فوق السقالة.
"كل العمال هنا شايلين روحهم على أيديهم، لو حد وقع أو حصلوا حاجة، يبقى أتحكم عليه بالجوع، ولا عمرنا سمعنا عن حكومة ولا عن نقابة، ما بنسمعش عنهم غير لما يدفعونا الضرايب، وفواتير النور والميا".
يتوقف عن الحديث قليلاً لمتابعة العمل ثم يكمل: "أحنا طقم عمل كامل حدادين ونجارين بنسافر مع بعض ورا أى شغلانة وبنعد بعيد عن بيوتنا"، ويضيف: "عندى ولد فى كلية هندسة دخلته الجامعة عشان ميطلعش شقيان زى أبوه، وهكمله تعليمه لو هموت من الجوع" بإصرار واضح قال المعلم إبراهيم الذى أثبت بتجربته، أن الصنايعى المصرى لا يمكن أن يحسب حساب الغد لأنه يعيش اليوم بيومه لا يعرف ما تخبأ له الأقدار بعد عدة ساعات، ولا يدخر شيئاً بجانب "عدته" وقوة ساعديه التى يزول رزقه بزوالها، وهى كل مخاوف المعلم إبراهيم الذى طعن به السن وأصبح فى قلق من اليوم الذى لا تسعفه فيه صحته لمواصلة العمل فيكون مصير أسرته الجوع والتشرد.
أما "فتحى" فهو أصغر العمال الذين تناثروا فى المكان، لم تتعد سنوات عمره ال15 عاماً، ولكنه بالرغم من سنه الصغيرة "شرب الصنعة" وأصبح نجارا ماهرا فى سن صغير، ترك المدرسة التى أخبره والده أنها لا تجدى نفعاً، ومازال يردد كلمات والده الذى أطلقه للعمل "بلا علام بلا كلام فارغ أتعلمك صنعة تنفعك"، قالها له وهو يدفع به إلى المعلم "إبراهيم" والمعلم "أبو عمر" ريس العمال جميعاً، ليعلمه الصنعة على أصولها.
"بقالى 5 سنين بشتغل مع المعلم أبو عمر وبقوله "يابا" هتف فتحى بعينين محمرتين من تناثر الأتربة حوله، وبوجه غابت عنه معالم الطفولة تماماً، لتحل محلها معالم الرجولة الحقيقية.
"يوميتى 30 جنيها، بحوشهم مع المعلم أبو عمر وهو بيدينى مصروفى" أكمل فتحى وهو يدق المسامير بخفة وسرعة.
"أنا مش عايز أتعلم عايز أكمل شغل، ونفسى أبقى معلم كبير زى المعلم "أبو عمر"، ونفسى أسافر برا، عشان بيقولوا العيشة برا حلوة أوى" يقول "فتحى": الطفل الصغير غير مدرك لأعباء حياة عامل اليومية نظراً لسنه الصغيرة وانبهاره بما حوله من المعلمين الذين علموه كل شىء عن الصنعة.
وبالرغم من صغر سنه وطفولته الضائعة يعتبر "فتحى" أفضل حالاً من "خالد العربى" 24 عاماً الذى لم يتعلم الصنعة فى حياته، بعد أن توقع أنه ليس بحاجة إليها نظراً لإكماله مراحل التعليم وحصوله على شهادة عليا من المعهد الفنى التجارى، ليكمل الدراسة وينتهى من سنة التجنيد، ثم يحاول الالتحاق بعمل مناسب، ولكن دون جدوى، أغلقت فى وجهه جميع الأبواب ووجد نفسه أمام خيار لا ثالث له، وهو أن يعمل "شيال" فى أى موقع بناء، أما عن اليومية التى لا تتجاوز ال60 جنيه فهى أفضل من لاشىء، وعن اختياره للرئيس القادم قال عاوزين رئيس شريف ويعامل الشعب كويس ويبص لمصالحهم ويقف جنب الفقراء والمحتاجين.
"خلصت تعليمى ودورت على شغل كتير، بس كانت الأوليوية لأبناء العاملين، عشان كده قررت أشتغل أى حاجة بدل قعدتى فالبيت، ومبقاش ينفع أمى تصرف عليا" يقول: "خالد" الذى بالرغم من تعليمه وشهادته العليا يعد أقل العمال شيئاً بالموقع نظراً لعدم اكتسابه "الصنعة" كما يصفه باقى العمال، ليتحول "خالد" إلى شيال بأقل يومية بعد أن تخرج من المعهد.
"دى ظروف الحياة وأنا أحسن من غيرى، ومبفكرش أتجوز ولا أفتح بيت عشان محلتيش حاجة وعارف أن لو حصلى حاجة فالشغل مفيش حد هيساعدنى، زى ناس كتير شفتهم هنا بيقعوا أو يتصابوا ويترموا فالشارع من غير شغل".
يصمت "خالد" قليلاً متذكراً حياته السابقة ثم يقول: "نفسى أتوظف وأشتغل شغلانة محترمة بمرتب، عشان أحس أن سنين التعليم مرحتش هدر، ومبقاش خايف على مستقبلى فى كل لحظة" وأشار إلى أنه يريد رئيس يتقى الله فى شباب الشعب المصرى ويحاول تقديم حلول لمشاكلهم وأهمها البطالة.
لم يختلف حال "عبد الرسول عبد الخالق" كثيراً عن "خالد" بالرغم من كونه لا يفك الخط، فالعمل واحد واليومية واحدة، والقلق والخوف من المستقبل هو دوماً العامل المشترك بين كل "الصنايعية"، ولعل الاختلاف الوحيد هو خفه دمه الواضحة وتندره دوماً بحاله وحال زملائه من الشقاء مما يثير ضحكاتهم أثناء تحلقهم حول غدائهم البسيط، أو أثناء جلسة شرب الشاى التى تبعد بهم قليلاً عن ساعات العمل الطويلة.
"أنا من قنا، بجرى ورا الشغل فى أى حتة، أمال أيه رزقى ورزق عيالى "يقول" عبد الرسول ضاحكاً فى بساطة، "من وأنا عيل وأنا على باب الله شيال بشتغل أى حاجة المهم أجيب قوت يومى بدل ما أمد إيدى لحد".
"عندى عيلين دخلتهم المدارس، وهصرف عليهم يمكن يطلعوا أحسن منى" هكذا يكمل: "عبد الرسول" بأمل فى المستقبل على الرغم من يوميته التى لا تتجاوز ال50 جنيها ولا تكفى "حق الشاى والسجاير" على حد قوله.
وعن الثورة والانتخابات كان "لعبد الرسول" رأى آخر" ثورة إيه مشفناش منها حاجة غير وقف الحال، بيقولوا لو جه رئيس جمهورية كويس هيتصلح حالنا ويمكن يصرفولنا معاش" يصمت لبرهة ثم يكمل "ضاحكاً" قولولنا ننتخب مين وأنا معاكوا".
بنظرة أخرى تماماً وعقل واعى يفكر "عبد الستار محمد" 51 عاماً، واحد من "الصنايعية الشقيانين" يحمل بيديه الحديد المسلح بمهارة يشتهر بها وسط من يقع تحت إدارته من العمال، لم يكتفى كغيره من العمال بيوميته وقوت يومه، وخاصة بعد المحنة الطاحنة التى مرت بعمال مصر فى أعقاب صورة 25 يناير التى توقف بعدها العمال لفترة طويلة دفعت معظمهم إلى بيع كل ما يمتلك ليحصل على رغيف العيش، وبعد زوال المحنة تقريباً وبداية الانفراجة فى الشهور الأخيرة، نظر "عبد الستار" إلى طفلتيه اللتان يعشقهما ويتمنى لهما حياة أفضل، وقرر أن يفكر فى حل عملى لما يعانيه عمال "اليومية" وفى الخوف المحيط بهم فى حالة وقوع مكروه أو توقف العمل لأيام أو شهور تتوقف معها الحياة تماماً.
وكانت "ال5 جنيهات" هى الحل الذى توصل إليه "عبد الستار" بعقله البسيط، فاستخدم تعليمه المحدود وخبرته الكبيرة فى الحياة فى دراسة المشروع وكيف يمكن أن تحقق فكرته حياة أفضل له ولأسرته ولغيره من العمال.
"الفكرة عبارة عن نقابة حقيقية لعمال اليومية" هكذا بدأ "عبد الستار" حديثه عن فكرته البسيطة فى تنفيذها والكبيرة فى معناها، ويقول "عمال اليومية فى مصر تجاوز عددهم ال11 مليون عامل، إحنا مش هنكلف الحكومة حاجة إحنا بس عايزنها تساعدنا فى تفعيل نقابة العمال، والاعتراف بعمال اليومية كعمال مسجلين بكشوفات الدولة، يخصص لهم معاش وتأمين طبى ضد حوادث العمل، كغيرهم من أهل مصر، وكله من يوميتنا برده".
"11 مليون عامل عدد كبير لو كلهم اشتركوا فى المشروع ممكن فعلاً نقدر نعمل تأمين صحى على حياتنا، والباقى يبقى فلوس متشالة لينا ولعيالنا، ممكن الشاب يقدر يتجوز، واللى عايز يجوز عياله يلاقى حاجة يتسند عليها، بدل ما احنا عايشين يوم بيومه"، يقول "عبد الستار" بأمل كبير فى حله المتواضع الذى يرى أن من شأنه تخفيف حال "عمال اليومية".