إنها العروس الجميلة ذات المهر الغالي الذي لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس الرفيعة والهمم العالية، عروس غالية ثمينة كثر مُحِبّوها والراغبون فيها منذ عصر النبوة، وظل الطالبون يجمعون لها مهرها حتى فنت فيه أعمارهم، وانحنت معه ظهورهم، فوصلوا ليلهم بنارهم سيراً إليها، وذاقوا مرارة الصبر في طريقهم لخطبتها، وشربوا رغماً عنهم كأس الموت التي تأخذهم إلى بابها، حيث الخلود الدائم الذي لا انقطاع فيه.

خلقها الله تعالى لخُطّابها مهما كثروا، ودعاهم للتنافس على ميراثها والسباق لنيلها، وعرّفهم أسباب الفوز بها، ووضع لهم منهج السير إليها وطريق الحصول عليها، وجعلها للفائز بها سكناً وأمناً، وملاذاً ووطناً، وراحة وأنساً، وملجأ ومستقراً.

وكيف لا تكون كذلك وهي ليست كغيرها، إذ لا يزيدها مرور الوقت وانقضاء السنين إلا حسناً، فتزداد زينتها عاماً بعد عام.

- إنها الجنة:

نعم.. إنها الجنة.. جنة الخلد والرضوان.. دار المقامة والسلام، وهي "لبنة من فضة ولبنة من ذهب"، وفيها: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا هطر على قلب بشر"، وهي المتاع الدائم، والنعيم السرمدي، والمُلك الأبدي، والميراث الحقيقي، ومَن يحظَ بها "ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت"، ومع كل ذلك يقلّ في زمن الفتن خُطّابها لكثرة الشبهات، ويتعثر السائرون إليها لوعورة الطريق، ويفتر طالبوها لانتصار الشهوات.

وعن رسول الله(ص) قال: "لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها. فأمر بالجنة، فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، ثم رجع، فقال: وعزتك، لقد خشيت ألا يدخلها أحد...".

- هي دار المتقين:

جعلها الله عزّوجلّ لعباده المؤمنين المتقين ودعاهم للسباق والمسارعة إليها فقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد/ 21)، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133)، خلقها الله عزّوجلّ وأعدها للفائزين وقال: (... فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وأُدخِلَ الجَنّةَ فَقَدْ فَارَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا مَتَاعُ الغُرُورِ) (آل عمران/ 185).. وأطْلَع أصحابَها على مكانهم منها منذ لحقوا بربهم عزّوجلّ لتقرّ أعينهم، ففي الصحيحين أن رسول الله(ص) قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة". فيصيبهم من نعيمها وهم في قبورهم بعد امتحان القلوب، كما أخبرنا النبي(ص): "ينادي منادٍ من السماء: أن صدَق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، افتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها".

رآها النبي(ص) وأخبر عنها وهو الصادق المصدوق فقال: "إني رأيت الجنة، وتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا..".

والإيمان بالجنة واجب على كل مسلم؛ لأنه يدخل في مضمون الإيمان بالغيب، وقد وصف الله تعالى المتقين أنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 3). فليس كل ما غاب عنا غير موجود، ولا ينبغي للمسلم أن يتكلف في معرفة ما لم نحط به علماً من الأمور الغيبية التي لم يطلعنا الله تعالى عليها، كمكان الجنة، وهل هي في الأرض أم في السماء، فيشغل نفسه ويضيع وقته ويشتت فكره فيما لا يترتب عليه زيادة عمل أو ثواب، وكذلك ليس له أن يتنطع في السؤال ويجعل معرفته بهذا الغيب وإحاطته بسرّه شريطة لإيمانه به.

- دار الخلود الأبدية:

والأدلة من القرآن والسنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة. قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود 108). أي غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله (إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ).

ومن الأدلة على أبدية الجنة قوله (ص): "من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت". وقوله عن أهلها: "ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا". كما أن الموت يذبح بين الجنة والنار ويقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".

- الجنة درجات متفاوتة.. ولها أبواب متعددة:

وقد دعانا الله تعالى إليها فقال: (... وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة/ 221). وهي درجات تتفاوت بتفاوت أعمال أصحابها، وقد قال النبي(ص): "الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام". وقال: "الجنة مائة درجة، ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم" والفردوس أعلى الجنة، وفيه درجات أيضاً أعلاها الوسيلة، وهي خاصة به (ص). كما جاء في قوله: "سلوا الله لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو".

والمسلم الصادق دائماً يتطلع لأعلى مقامات القرب من ربه عزّوجلّ، وقد حثنا النبي(ص) على طلب ذلك في دعائنا، حيث قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن". وللجنة أبواب متعددة.. منها باب خاص بالصيام وأهله كما أخبر النبي(ص): "لكل باب من أبواب البرّ باب من أبواب الجنة، وإن باب الصيام يدعى الريان"، "في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون".