إنّ إنساناً من دون هدف، يُشبه سفينة من دون دفّة. إنه شارد.. لا شيء.. لا إنسان.

هناك شيء ما يُوجّه حياة كل واحد منّا.

فما هي إذن القوة الدافعة في حياتك لتتحلى بالأخلاق؟ وما هو الهدف من الحديث حول الأخلاق؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، فإننا بمشيئة الله سوف نتكلم عن الأخلاق، من خلال هذه المقالات لأربعة أهداف، وسنعرض هذه الأهداف باستفاضة وتفصيل قدر المستطاع. وغايتنا من هذا أن نتفق عليها وأن نفهمها.

* الهدف الأول:

- إنها غاية بعثة النبي(ص).

إنّ هدف الأول من كلامنا عن الأخلاق، أنها غاية بعثة النبي(ص).

أراك دَهِشاً! لا تُدهَش ولا تتعجب. يقول النبي(ص): "إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق".

أراك تقول: هل هذا معقول؟ أيكون الهدف الأسمَى من بعثة النبي(ص)، هو ضبط الأخلاق؟

اقرأ الحديث مرة أخرى وفكّر فيه.

وما علاقة هذه بتلك؟

إني سائلك سؤالاً: لماذا بُعث النبي محمد(ص)؟

وللإجابة عن هذا السؤال. يقول الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فكر في هذه الآية، وتخيَّل معي لو أن المجتمع يسوده الغش.. يسوده الخداع.. تسوده إضاعة الأمانة.. تسوده الفواحش.. فهل هناك مجتمع فيه رحمة؟

وتخيَّل معي عائلة تسودها الكراهية ويسودها الحسد وتسودها الضغينة. فأين الرحمة إذن؟

إنها والله علاقة وثيقة بين الحديث: "إنما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق"، والآية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

واعلم أن لا رحمة للعالمين إلّا بالأخلاق.

هل توافقني على ذلك؟

أظنّك تقول الآن: "أنا أُوافق طبعاً على حديث النبي(ص): "إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق". ولكن العبادات أولى. فهل تريد أن تقول إنّ الأخلاق أهم من الصلاة، والصوم، والدعاء والذِّكر والحج و..".

وأقول لك: نعم. إنّ الأخلاق أهم، لأن كل العبادات هدفها الأسمَى هو ضبط الأخلاق. وإلّا فإنّ العبادات تصبح تمارين رياضية.

فالصلاة تضبط أخلاقك. يقول الله تعالى: (وأقِم الصّلاة إنّ الصلاة تَنهَى عن الفحشاء والمنكَر). سبحان الله، إذن مَن لم تُنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، كانت صلاته مجرد تمارين رياضية. فلقد صلّى، ولكن لم يتحسّن خلقه.

وكذلك الصّدقة. يقول الله تبارك وتعالى: (خُذ من أموالهم صَدقَةً تُطهّرهم وتزكّيهم بها). سبحان الله! إنّ هدف الزكاة هو التزكية، ومعنى التزكية هو التربية على حُسن الخلق. أرأيت كيف أنّ الزكاة هدفها أيضاً أخلاقي؟

فإنّ مَن يتصدّق سيتعلّم الرحمة وسيتعلم الكرَم، إنّ العبادات تَصبُّ في الأخلاق.

وإليك هذا المعنى اللطيف: هل سمعت من قبلُ عن الصّدقات الأخلاقية؟ إنها صدقات لها مذاق خاص. يقول النبي(ص): "تَبسُّمك في وجه أخيك صدقة". إننا في حاجة إلى فهم أحاديث النبي(ص) من جديد. إننا نحفظ هذا الحديث عن ظهر قلب. ولكن، هل نستشعر معناه؟

هيّا لا تَبخَل بالابتسامة، وتصدَّق.

والصوم أيضاً. يقول النبي(ص): "إذ كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سَابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم".

وتصل الأخلاق إلى ذروتها في الحج. يقول الله تبارك وتعالى: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).

إنّ الحج تدريب قاسٍ على انضباط الأخلاق. فإنك هناك حريص كل الحرص على حُسن الخلق. فلا تتكلم بصوت عالٍ، ولا تشتم أحداً، ولا تسب أحداً، ولا تظلم أحداً، بل تبالغ وتزيد في المبالغة لتحسين خلقك. ستمكث هناك 20 يوماً تقريباً في انضباط كامل.

يظن بعض الناس أن أهم شيء في الدين أن يتعلم الفقه.. وحفظ القرآن. فالعلم أولاً، والأخلاق ثانياً. فهل هذا الكلام صحيح؟

وأيهما يسبق الآخر: العلم أم الأخلاق؟

يقول الله عزّ وجلّ: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم). إنّ هذه الآية وردت على لسان سيدنا إبراهيم(ع). وقد قدّم العلم على التزكية (وهي التربية على حُسن الخُلق). أي أنه قدّم على الأخلاق. أراك الآن سعيداً.. فقد انتصرت.

إنّ هذه الآية التي ذُكرت. جاءت في القرآن 4 مرات، مرة على لسان سيدنا إبراهيم، وثلاث مرات قولاً عن الله عزّ وجلّ، وكان الترتيب مختلفاً. يقول الله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة). فقد قدم الله التزكية على العلم. أي أنه في دعوة سيدنا إبراهيم قدّم العلم على التزكية (وهي آية واحدة)، ولكن حينما جاء القول عن الله تعالى، قدّم التزكية (الخلق) على العلم (وذلك في 3 آيات). أراك قد سُررت لهذه النتيجة.. لأنك تبحث عن الحقيقة.

اسمع الذين يحفظون القرآن يقولون: وداعاً للخطأ والنسيان. فإذا كانت الآية على لسان سيدنا إبراهيم، فالعلم ثم التزكية، وإذا كانت قولاً عن الله التزكية قبل العلم. وكان هذا هو الهدف الأول من دراستنا للأخلاق أن تعلم: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".

* الهدف الثاني:

- معالجة الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات.

إنّ الهدف الثاني من كلامنا عن الأخلاق، هو معالجة الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات، أو بعبارة أعَم وأشمَل: معالجة الانفصال الشديد بين الدين والدنيا. فتجد الإنسان داخل المسجد في غاية الانضباط، أما خارج المسجد فهو إنسان آخر. وتجد لسان حاله يقول: "لا يهم، فالعبادات على ما يرام، والدين داخل المسجد، أما الحياة، فأعمل فيها ما أريد". إنّ هذا خطأ شديد.

إنّ هذا الانفصال ليس من الإسلام في شيء. فالإسلام وحدة واحدة، كلٌّ متكامل لا يتجزأ. فإيّاك أن تكون كالذي يغري الناس بعبادته، ثم يفاجئهم بأخلاق بعيدة تماماً عن الإسلام.

حذار من هذين النموذجين.. لقد نتج عن هذا الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات نوعان من البشر في بلادنا:

النوع الأول: عباد سيئو الخلق.

النوع الثاني: حسن الخُلق سيئ العبادة.

فترى أناساً حريصين على الأمانة وعلى الصدق، ولكنهم لا يصلّون. وترى أناساً حريصين على العبادات، ولكنهم سيئو الخلق.

قال رسول الله(ص): "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قالو: مَنْ يا رسول الله؟ قال: "مَن لا يأمَن جاره بوائقه".

تخيّلوا التي تنشر الغسيل وهو مبتل، فيتساقط على غسيل جارتها التي تسكن تحتها، ينطبق عليها هذا الحديث.

وبالضد تتضح الأشياء. جاء أُناس إلى رسول الله(ص) فقالوا: يا رسول الله، فلانة تُذكَر بكثرة صلاتها وصيامها وزكاتها، غير أنها تؤذي جيرانها. فقال (ص): "هي في النار". ثم ذُكر للنبي أن امرأة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وزكاتها، غير أنها لا تؤذي جيرانها. فقال (ص): "هي في الجنة".

إيّاك أن تفهم خطأ. فهذه ليست دعوة إلى أن تقلل من عبادتك. إننا نريدك أن تفهم فهماً دقيقاً. فإيّاك أن تصلح جانباً وتترك الآخر، وتذكّر أنه لا انفصال بين العبادة والأخلاق.

يقول النبي(ص): "إنّ شر الناس مَنزلة عند الله يوم القيامة، مَن يتركه الناس لاتقاء فحشه".

(وتوبوا إلى الله جميعاً أيّها المؤمنون لعلّكم تُفلحون). تخيّل.. هذا يُفقدك جزءاً من إيمانك. يقول النبي(ص): "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".

إنّ إماطة الأذَى عن الطريق شعبة من شُعب الإيمان. فما رأيك في مَن ألقَى بقايا الطعام في الطريق؟ هل تتخيّل أنّ هذا يُفقده جزءاً من إيمانه؟ وما رأيك في مَن تُوقظ ابنها في الصباح الباكر، وتقول له: "ارم كيس (...) في الشارع". هل تخيّلت أنّ هذا يُفقدها جزءاً من إيمانها؟ وما رأيك في مَن ترك عادم سيارته يؤذي مَن خلفه، ويؤذي المارّين في الشارع، ولم يصلح ما في السيارة من عطل؟ هل تتخيل أن هذا يفقده جزءاً من إيمانه.

- الحياة والإيمان قرناء جميعاً:

يقول النبي(ص): "الحياء والإيمان قرناء جميعاً". وذلك معناه أنه إذا نقص أحدهما نقص الآخر.

فنجد أحدهم ينتظر تحت البيت، ويبدأ في استعمال آلة التنبيه بصوت عالٍ ومستمر، فأين الحياء هنا؟ وتجد إحداهنّ تمشي وتضحك بأعلى صوتها، فأين الحياء هنا؟ وقد تكون من المصلّيات. ولكن معذرة: "الحياء والإيمان قرناء جميعاً".

تذكّر أننا نقول هذا حتى نعالج الانفصال الشديد بين العبادة والأخلاق، فإذا أردت أن تعرف مدى إيمانك فانظر إلى أخلاقك.

- يا سيئ الخُلق.. أنت المفلس:

يقول رسول الله(ص): "أتدرون ما المفلس؟". قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم ولا مَتاع. قال: "المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فنيت قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم، فطُرحت عليه ثم طُرح في النار".

أخشى بعد كل هذا التوضيح، ألّا تصل إلى النتيجة المطلوبة، بل لابدّ من أن تصل إلى أنّ الأخلاق والعبادات لا انفصال بينهما. وإني أدعوك أيها المفلس إلى أن تُنفق، أقصد أن تُحسن خُلقك.

وإليك هذه المفاجآت: إنها في كتاب الله "القرآن الكريم". وستجد في هذه المفاجآت ما يشفي صدرك ويُطمئن بالك. وستقرأ الآيات وكأنها لأول مرة. إنني والله أعني ما أقوله جيداً، وإليك التوضيح: فستجد حينما يتحدث الله عن صفات المؤمنين، صفة أخلاقية تأتي وراءها صفة عبادة، وهكذا.

سورة المؤمنون: يقول الله عزّ وجلّ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)).

أراك الآن تقرأ الآيات مرة أخرى. هل قرأتها كذلك من قبل؟ وهل عرفت الآن مَن هم المؤمنون الذين أفلحوا؟ فهم الذين لم يفصلوا بين العبادة والأخلاق: (وما بكم من نعمة فمن الله).. أحمد الله على هذه النعمة.