من حسن إيمان المسلم وفاؤه بعهده ووعده ونذره ودينه إذا استدان. وقد عرض القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في اكثر مناسبة لبيان أهمية خُلق الوفاء والتأكيد أنه من ألزم صفات المؤمن، والتحذير من أن الغدر والخيانة ونقض العهد وعدم الوفاء، هي مخالفات للدين والمروءة توجب غضب الله سبحانه وتعالى والطرد من رحمته.
(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ...) (النحل/ 92)
استهلت مديرة حملة أهل القرآن العالمية، إيمان إسماعلي عبدالله حديثها عن خلق الوفاء ومكانته، ضمن منظومة مكارم الأخلاق التي حث الدين الإسلامي على التحلي بها، حيث بينت أن الوفاء هو الالتزام بما عاهد عليه الإنسان ربه أو غيره من الناس. وأشارت إلى أن للوفاء أهمية كبرى في الإسلام، فهو القوام لمكارم الأخلاق، وهو ميزان المروءة ومقياس الفضل في الأفراد والأمم، كما بينت أن للوفاء ألواناً كثيرة، منها الوفاء بالوعد والعهد والبيعة، فضلاً عن الوفاء بالدّين والكيل والنذر.
وتتطرق في بيانها إلى أمثلة مشرقة من التاريخ تشهد على حرص المسلمين على التمسك بفضيلة الوفاء امتثالاً لأمر ربهم عز وجل واتباعاً لسنة نبيهم (ص). وإذ عُرف (ص) بالوفاء واشتهر به بين قومه منذ صغره ومن قبل بعثته.
كما يذكر التاريخ للعرب أنهم عرفوا قيمة خلق الوفاء وسجلوا أسماء أصحابه بأحرف من نور. ويبدو ذلك في سجّله التاريخ من قصة الرجل الطائي مع النعمان بن المنذر، وكان ملكاً على الحيرة في العراق، وكان للنعمان يومان، يوم بؤس لا يلقى فيه أحداً إلا قتله، ويوم سرور لا يلقى فيه أحداً إلا منحه الكثير من عطاياه. وذات يوم خرج رجل من طيء يصطاد، فلقيه النعمانُ بن المنذر وكان في يوم بؤسه: فقال لابد من قتلك. فقال الرجل الطائي: أصلح الله الملك لقد تركت أولادي يكاد الجوع يقتلهم. فلو أذنت لي حتى أعود إليهم فأطعمهم فأوصي بهم، ثم آتيك في اليوم الثالث لتفعل بي ما تشاء، فرقّ الملك لحاله وقال: لا آذن لك حتى يضمنك ضامن. فنظر الرجل إلى من حوله فوقعت عينه على رجل يعرفه فقال له: يا شريك بن عمرو: هل من الموت محالة؟ اضمني عند الملك حتى أطعم أولادي وآتيك في اليوم الثالث، فقال شريك: أصلح الله الملك، هو عليّ. وانطلق الرجل إلى أهله، وجاء اليوم الثالث وأحضر الملك شريك بن عمرو وقال له: أنت ضامن والضامن غارم، وإذا أخل الطائي بوعده فلابد من قتلك. فقال له شريك: ليس لك عليّ من سبيل حتى يمضي النهار، وفي آخر ذلك اليوم الثالث هيأه للقتل، فقال شريك: أمهلني قليلاً فإنى أرى شبحاً من بعيد لعله صاحبي. ثم أسفر الشبح عن ذلك الرجل الطائي وقد حضر، فتعجب الملك لذلك، ووجه إليهما هذين السؤالين فقال: يا شريك بن عمرو ما الذي حملك على أن تضمن الرجل وربما أخلف وعده فتقتل به؟ قال شريك: إنما فعلت ذلك حتى لا يقال ضاعت المروءة من الناس. قال الملك: وأنت أيها الطائي: لقد نجوت بنفسك فما الذي دعاك إلى أن تحضر لتقتل وفي ذلك إتلاف حياتك؟ قال الطائي: أصلح الله الملك، إنما جئت أسلم رقبتي للقتل حتى لا يقال ضاع الوفاء من الناس. فقال الملك في دهشة وعجب: والله لا أكون ألأم الثلاثة، قد عفوت عنك حتى لا يقال: ضاع العفو من الناس.
- عدم الوفاء من علامات النفاق:
وإذا كان الوفاء بالعهد خُلقاً إسلامياً رفيعاً، فإن الممارسات التي تخالف الوفاء وتخل به، كالغدر والكذب وإخلاف الوعد والعهد تُعتبر جميعها منقصة ومفسدة ودليلاً على ضعف إيمان صاحبها. وقد تحدث القرآن الكريم عن أصحاب تلك السلوكيات ووصفهم بالمنافقين الفاسقين، قال تعالى في (سورة الأعراف/ الآية 102) (وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)،كما عد رسول الله (ص) نقص العهد وإخلاف الوعد من علامات النفاق.
إن الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد، جميعها أخلاق مذمومة في الإسلام وتأباها الفطرة السوية. ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى قد أنذر أصحابها بأنهم خارج دائرة محبته عز وجل، كما توعدهم بالخسران المبين، يقول الله تعالى في (الآية 58 من سورة الأنفال): (...إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، وقال عز وجل في (الآية 27 من سورة البقرة): (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
ويحذر الله تعالى في كتابه الكريم من نقض العهد لأي سبب من الأسباب، سواء أكان طمعاً في مكسب أم هرباً من مغرم، يقول الله تعالى في (الآية 95 من سورة النحل) (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وقد شبه القرآن الكريم حال الذي ينقض عهده بالمرأة الحمقاء التي تنقض غزلها بعد أن أحسنت حياكته وجعلته قوياً متيناً، يقول تعالى في (الآية 92 من سورة النحل): (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ...). ويوضح الله تعالى عاقبة نقض العهد، ويشبهها بزلل القدم بعد ثبوتها، في قوله تعالى في (الآية 94 من سورة النحل): (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقد بين القرآن الكريم النهاية الأليمة للغدر. إذ يؤدي بصاحبه إلى اللعنة، وهي الطرد من رحمة الله تعالى وسوء الدار والخسران. يقول الله عز وجل في (الآية 25 من سورة الرعد): (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). ويقول عز وجل في (الآيتين 26 و27 من سورة البقرة): (...وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
- واجب الآباء والمربين:
وإذا كان خُلق الوفاء يعد من الفضائل، التي أكدها الإسلام وحث عليها ورغّب فيها واعتبره من السجايا الأصيلة للفطرة السليمة النقية، فيجب على الأهل والمربين العمل على غرس هذا الخلق في نفوس آبنائهم وبناتهم منذ الصغر، حتى يعتادوا عليه ويجتهدوا في التمسك به.
ويمكن للأهل تحقيق ذلك من خلال توجيه الآبناء والبنات منذ صغرهم نحو الإقلال من الوعود، وأن لا يعدوا وعداً إلا بعد حسن تفكر وتدبر في ما يتطلبه الوفاء به من زمن وجهد. كما يتعين على الأهل أن يُشعروا أبناءهم بأن لهم شرفاً وكرامة يهدمهما خلف الوعد والغدر وعدم الوفاء، ثم يبينوا لهم عواقب الغدر وثمرات الوفاء. ويستلزم الأمر مراقبة تصرفات الأبناء باستمرار وتنقيحها، بتبيان الصحيح منها وتشجيعهم عليه، وتبيان السيئ منها وتقويمه، بحسب قدرة عقولهم على الفهم والاستيعاب.