واحة صغيرة في عمق الصحراء الغربية تتبع إداريا محافظة مطروح، تدلي بأصواتها الانتخابية كاملة في الانتخابات الرئاسية، بعد توفير كل المتطلبات لضمان وصول أهاليها للمقار الانتخابية.
إنها قرية «الجارة» أو واحة «أم الصغير»، وهي قبيلة صغيرة حكم موقعها الجغرافي على أهلها بالعزلة، حيث كانت الواحة الصغيرة تربط سيوة بـ«العلمين» قديما، من خلال طريق القوافل التجارية الذي كان يمر عبرها، قبل أن تنقطع بها السبل لتعيش منعزلة على أبنائها، الذين لا يتجاوز عددهم الـ700 مواطن يتحدثون الأمازيغية، ويعملون في زراعة التمر.
في هذا الطريق الطويل غير الممهد، تنقطع بالعابر سبل الاتصال بالعالم، فلا شبكة هاتف محمول، ولا سيارات تدخل وتخرج من الواحة، فقط توجد 4 نقاط لقوات حرس الحدود على الطرق الممتدة إلى الواحة، بينما يتمركز مقر النقطة الخامسة داخل الواحة الصغيرة.
270 كيلومترا هي المسافة الفاصلة بين سكان واحة سيوة وأولاد عمومتهم في واحة الجارة وهى نفس المسافة الفاصلة بين الجارة وبين العاصمة مرسى مطروح، فما أن تصل إلى نقطة «بئر النص» على بعد 150 كيلومترا في طريق سيوة مرسى مطروح حتى تنعطف يمينا في اتجاه الجارة، لتصطدم بأول نقطة من ثلاث نقاط حدود، يسأل الجنود عن سبب الزيارة ويطلعون على إذن الدخول ثم يتركونك تغادر إلى عالم رحب من الصحراء على الجانبين.
في التصويت الأخير على الدستور في 2015 لم يخرج أحد من أهل «الجارة»، للإدلاء بصوته في الانتخابات بأقرب دائرة في واحة سيوة، إذ أرسلت رئاسة مركز ومدينة سيوة بالسيارة التي خصصتها المحافظة، لجلب سكان «الجارة» إلى سيوة وقت الضرورة، ولكنهم لم يتلقوا اتصالا على جهاز الثريا المتواجد بالقرية، والذي يمثل وسيلة الاتصال الوحيدة لها بالعالم الخارجى، ليخبرهمقبل موعد الاستفتاء بضرورة الإدلاء بأصواتهم، وأن السيارة سوف تكون موجودة في صباح ذلك اليوم.
كان الرئيس الراحل محمد أنور السادات آخر من أرسل لهم صندوقا انتخابيا، ويقول أحمد على بركة، إمام مسجد الواحة: «في السبعينيات كنا 16 صوتا، وكان السادات بيبعت لنا صندوق، وكلنا كنا بنشارك في الانتخابات».
أحلام أهل القرية تتقاذفها أحاديث تتكرر دون تنفيذ عن متحف كبير يضمها كمحمية طبيعية، واستثمارات لإنشاء مصنع مياه قائم على عيونها العذبة، واستصلاح 500 ألف فدان من الأراضي الصالحة للزراعة.
في شوارع الواحة لا أحد يتحدث العربية بل جميعهم يتحدثون الأمازيغية بطلاقة، حفاظا عليها من الانقراض، فهي لغة الآباء والأجداد، والجلابيب البيضاء الفضفاضة والبشرة السمراء أهم ما يميز السكان.
البشاشة تعم الوجوه التي ترحب بزوار الواحة، فما أن يعلم أهل القرية بوصول زائر جديد، لا تمر عدة دقائق إلا وتفرش المضيفة ويأتي شاب صغير بسجل التشريفات ليكتب الزائر فيه كلمة وهو السجل الذي يعد تأريخا للواحة، ثم تمتد المائدة ويوضع عليها طعام بسيط من الفول والجبن والعسل الأسود والخبز الطازج.
تروي الأسطورة أن شيخا مباركا يدعى «الطرابلسي» كان عابر سبيل بالقرية، وحين نزلها وطلب طعاما لم يستجب له أحدهم، فدعا عليهم بألا يزيد نسلهم وأنه إذا ولد طفل في الصباح يموت شيخ قبل المساء.
ويوجد تفسير أكثر منطقية لأهل القرية عن أسباب انخفاض عدد سكانها، موضحين أن ذلك يرجع إلى انعدام الرعاية الصحية، فلا يوجد طبيب واحد في هذه العزلة الصحراوية ولا مستشفى، فقط توجد سيارة إسعاف جاءتهم بعد الثورة، فالنساء يتوفين أثناء الوضع، والمريض يموت قبل أن يسعف، والأطفال ماتوا من عدم الرعاية، أما الكبار والمرضى فقد كانوا يموتون في الطريق قبل أن يصلوا إلى مرسى مطروح.
لا تتذكر الدولة أهل «الجارة» في شيء إلا كمائن حرس الحدود، وكذلك مرشد قسم شرطة سيوة الذي يكون أول الوجوه المطلة على الزائر في سيارته ليتعرف على هويته، بالإضافة لتلك المعونة السنوية التي تأتى إليهم سنويا في شهر رمضان من قصر الرئاسة، وهو تقليد ملكي منذ عهد الملك فاروق، وتحتوي على المواد التموينية من سكر وزيت وأرز وقمح وبطاطين.. فهذه المنتجات لا تأتي القرية إلا عندما يأتي التجار من عرب مطروح بها لمقايضتها بالبلح والزيتون، وهما المحصولان الوحيدان اللذان تنتجهما الواحة، إضافة إلى صناعة الخوص، التي تقوم النساء باحترافها منذ سن صغيرة ليبيعها الرجال في غير موسم حصاد البلح والزيتون ليأتوا للقرية بما تحتاجه من سلع أخرى.
كان أهل «الجارة» يتعاملون بالمقايضة منذ عدة أعوام، لا لأنهم لا يعرفون النقود بل لأنهم لا يجدونها، فلم يكن بها موظف واحد يتقاضى أجرا أو إنسان يعمل بغير الزراعة، فكانوا يقايضون على محاصيلهم من البلح والزيتون بمنتجات تموينية من سيوة أو مرسى مطروح.
بيوت القرية مطلية بمادة الكرشيف الطينية لأنها من التراث السيوي القديم، لكنها مغطاة أيضا بشرائح شمسية تستخدم لإنارة البيوت وشوارع القرية، فمن بين 99 منزلا بالقرية تعلو 79 منها الشرائح الشمسية التي اعتلت أسطح القرية منذ 3 أعوام بمنحة ألمانية، بعد زيارة مجموعة من الباحثين للواحة ورؤيتهم لأحوال أهل القرية الذين كانوا يعيشون على مولد كهرباء ينير القرية من الساعة 6 مساء حتى 12 ليلا، ومنذ دخول الطاقة الشمسية للقرية عرف أهلها التليفزيون والدش وأجهزة الريسيفر، حيث تكفي كل خلية شمسية لتشغيل 5 مصابيح كهربية وتشغيل جهاز تليفزيون، كما وفرت هذه الألواح تشغيل 13 جهاز كمبيوتر بالمدرسة التي تضم المرحلتين الابتدائية والإعدادية بالقرية.
جهاز الثريا الكائن بمجلس القرية كان وسيلة الاتصال الوحيدة قبل أن تمدهم المحافظة منذ 5 أعوام بجهاز هاتف أرضي يعمل على الطاقة الشمسية.
هذان الجهازان يمثلان شريان الحياة في القرية، حيث يستعمل أهلها الثريا في طلب الإسعاف أو الاتصال بتجار البلح والتمور أو لإرسال سيارات من سيوة إليهم لتنقلهم إلى خارج «الجارة»، ولكن ارتفاع سعر الدقيقة إلى 7 جنيهات في ظل عدم قدرتهم المالية جعلهم يلتمسون من المحافظة إمدادهم بجهاز أرضى من نوع خاص لا يحتاج توصيلات أو سنترال ليعمل والدقيقة به بـ75 قرشاً، وخصصوا جهاز الثريا للاتصال بذويهم خارج مصر.
ساعدت هذه الأسباب في المزيد من العزلة للواحة، فكلما أتى إليهم مستثمر للاستثمار في عين المياه (كيفار) تراجع بسبب عدم وجود اتصالات.
النساء الكبيرات في القرية لا يجدن إلا اللغة الأمازيغية وتقوم الصغيرات بالترجمة لهن من العربية، ويعملن جميعا في صناعة الخوص الملون.