معنا اليوم حديث من أحاديث الفتن وأشراط الساعة؛ وهو حديث انحسار نهر الفرات عن جبل من ذهب، فهل قرب تحقق هذه النبوءة؛ حيث ظهرت تقريبًا جميع علامات الساعة الصغرى إلا هذه العلامة، وهي ظهور جبل من ذهب في نهر الفرات بعد انحساره؛ حتى تبدأ بعدها أحداث أخرى.

حيث روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن (8 / 100) باب خروج النار، ومسلم في كتاب الفتن (برقم 2894) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (لا تقوم الساعة حتى يُحْسَر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، فيقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا أنجو).

وفي رواية قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا). نفس المراجع السابقة، ورواه أيضًا أبو داود (برقم 4313) والترمذي (برقم 2572).

وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال: كنت واقفًا مع أبي بن كعب، فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا ؟ قلت: أجل، قال: فإني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: (يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون). مسلم (برقم 2895).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون). رواه حنبل بن إسحاق في كتابه الفتن (ص 216) بسند صحيح.

أخرج هذا الحديث بالإضافة إلى الإمامين البخاري ومسلم، كل من عبدالرزاق في مصنفه (11/ 382) عن أبي هريرة، والإمام أحمد في مسنده (2 / 306) عن معمر، وفي (2 /332) من طريق زهير، وكذلك في (5 /139 140) عن طريق كعب. وأبو داود في سننه (4/ 493) والترمذي في سننه (4 / 699)، وابن ماجة في سننه (2 / 1343). كما أورده كل من الإمام أبي عمرو الداني في كتابه السنن الواردة في أكثر من موضع. وأيضًا أورده الإمام الحافظ نعيم بن حماد في الفتن في أكثر من موضع، وأورده ابن كثير في كتابه النهاية في الفتن والملاحم.

وقد جاءت ألفاظ أخرى شاذة للحديث المذكور، وهي: ليحسرن الفرات عن جبل من ذهب حتى يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل عشرة تسعة. أخرجه ابن ماجة في سننه (2 / 1343)، والإمام أحمد في مسنده (2 / 261، 346، 415)، وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات: زوائد ابن ماجة (2 / 306)، والحديث أورده الحافظ في الفتح (13 / 81)، وقال: وهي رواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من حديث أبي هريرة عند مسلم، وشاهد من حديث أبي بن كعب: من كل مائة تسعة وتسعون. وقال الألباني عنه: حسن صحيح دون قوله: من كل عشرة تسعة، فإنه شاذ. صحيح ابن ماجة (2 / 377).

شرح الحديث:-

أولًا: تعريف نهر الفرات:

هو بالضم ثم التخفيف، وآخره تاء مثناة من فوق، والفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه، ومخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم إلى ملطية، ويصب فيها أنهارًا صغارًا، ثم يمر بالرقة، ثم يصير أنهارًا لتسقي زروع السواد بالعراق، ويلتقي بدجلة قرب واسط، فيصيران نهرًا واحدًا عظيمًا يصب في بحر الهند الخليج العربي، أنظر: معجم البلدان (4 / 241 242).

ثانيًا: المعنى الإجمالي للحديث:

يقول الإمام النووي رحمه الله - في معنى انحسار الفرات: ومعنى انحساره، انكشافه لذهاب مائه، وقد يكون بسبب تحول مجراه، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور بالتراب، وهو غير معروف، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب، ومر قريبًا من هذا الجبل كشفه، والله أعلم بالصواب. أهـ. شرح صحيح مسلم (18 / 98).

يقول الحافظ ابن حجر عن سبب تسميته بالكنز، في الحديث الأول، وعن سبب تسميته بجبل من ذهب في الحديث الثاني: وسبب تسميته كنزًا باعتبار حاله قبل أن ينكشف، وتسميته جبلًا للإشارة إلى كثرته. الفتح (13 / 80).

أما معنى أن يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ولا ينجو إلا واحد، الظاهر من معنى هذا الحديث أن القتال يقع بين المسلمين أنفسهم، لأن قتال المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى وغيرهم يسمى ملاحم.

ثالثًا: زمن حدوث ذلك:

وقد اختلف الأئمة في تحديد زمن حدوث ذلك، فذهب الإمام البخاري إلى أنه يقع مع خروج النار، ويظهر ذلك من صنيعه أي من صنيع الإمام البخاري، إذ أدخل حديث حسر الفرات تحت باب خروج النار، وأورد حديث أبي هريرة وحارثة بن وهب ولفظ حديث حارثة هو: تصدقوا، فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فيقول الذي يأتيه بها: لو جئت بها بالأمس؛ لقبلتها فأما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها، عقب الباب المذكور مباشرة تحت باب لم يترجم له بشيء، مما يدل على أنه متعلق به، فهو كالفصل منه، ومن ثم يؤخذ السبب في عدم قبول الناس ما يعرض عليهم من الأموال، وكذلك سبب النهي عن أخذ شيء مما يحسر عنه الفرات، وهو انشغالهم بأمر الحشر، بحيث لا يلتفت أحد منهم إلى المال بل يقصد أن يتخفف منه ما استطاع. الفتح (13 / 81 82).

وذهب الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان إلى أنه يقع في زمن عيسى بن مريم عليهما السلام، فإنه ذكر حديث حسر الفرات ثم قال: فيشبه أن يكون هذا الزمان الذي أخبر النبي "صلى الله عليه وسلم" أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد، وذلك في زمان عيسى عليه السلام، ولعل سبب هذا الفيض العظيم ذلك الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين، والله أعلم. المنهاج (1 / 430).

وذكر القرطبي نفس كلام الحليمي وأقره على ذلك، أنظر التذكرة (ص 750).

وهناك حديث يؤيد هذا القول، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا.... إلى أن قال: ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)، البخاري كتاب الأنبياء باب نزول عيسى عليه السلام (6 / 490 191).

أما ابن حجر فإنه لم يحدد لحديث حسر الفرات عن جبل من ذهب زمن معين، لكنه ذكر ما ذهب إليه البخاري من أنه يقع عند الحشر، وذلك أثناء تعرضه لبيان الحكمة التي لأجلها نهى النبي "صلى الله عليه وسلم" عن الأخذ منه، وقد عد ذلك أي حسر الفرات عن جبل من ذهب صاحب الإشاعة، من الأمارات التي تدل على قرب خروج المهدي. الإشاعة (ص 91)، والذي دفعه إلى القول بذلك ما رواه ابن ماجة من حديث ثوبان مرفوعًا: يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم ذكر الحديث في المهدي، فإن كان المراد بالكنز الذي في حديث أبي هريرة، دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي قبل نزول عيسى وخروج النار، ولكن ليس هناك ما يعين ذلك. الفتح (13 / 81).

المعنى المرجح

ويبدو لي - والله أعلم - أن الأنسب حمل هذه الأحاديث على محمل واحد، وهو أن ذلك يقع بعد نزول عيسى عليه السلام، حين تخرج الأرض بركتها حتى تشبع الرمانة الواحدة أهل البيت كلهم، ولا يبقى في الأرض كافر، كما جاء في حديث النواس. (مسلم (4 / 2250- 2255)، في سياق طويل عن قصة الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام.

رابعًا: سبب النهي عن أخذ شيء منه:

أما الحكمة التي لأجلها ورد النهي عن الأخذ من ذلك الجبل الذي يحسر عنه الفرات، فقد ذكر العلماء في بيان الحكمة من ذلك عدة أسباب:-

1 - أن النهي لتقارب الأمر وظهور أشراطه، فإن الركون إلى الدنيا والاستكثار منها مع ذلك جهل واغترار.

2 - أن النهي عن أخذه لما ينشأ عنه من الفتنة والاقتتال عليه.

3 - لأنه لا يجري به مجرى المعدن، فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق الله إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه، فكان الانقباض عنه أولى. ذكره الحليمي احتمالًا في المنهاج (1/ 430)

4 - إنما نهى عن الأخذ منه أنه للمسلمين فلا يؤخذ إلا بحقه، ذكره ابن التين، وقال كما حكى عنه الحافظ ابن حجر: ومن أخذه وكثر المال ندم لأخذه ما لا ينفعه، وإذا ظهر جبل من ذهب، كَسَدَ الذهب، ويبدو أن الإمام البخاري ذهب إلى اختيار القول الأول، إذ أورد هذا الحديث تحت باب خروج النار؛ مما يوحي بأنه يرى أن النهي عن الأخذ ورد لأنه عند الحشر ومع خروج النار، وهو وقت انشغال الناس بأمر الحشر، فإذا أخذ منه أحد لا يستفيد منه سوى الندم.

رأي القرطبي

وذهب القرطبي إلى اختيار القول الثاني، وقال: وهو الذي يدل عليه الحديث. التذكرة (ص 750). كذلك ذهب إلى اختياره الحافظ ابن حجر، واستدل بحديث أبي بن كعب مرفوعًا: يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب...، وذكر الحديث؛ وبهذا الحديث أبطل ما ذهب إليه ابن التين، وقال: إنما يتم ما زعم من الكساد لو اقتسمه الناس بينهم بالتسوية ووسعهم كلهم، فاستغنوا أجمعين، فحينئذ تبطل الرغبة فيه، وأما إذا حواه قوم دون قوم، فحال من لم يحصل له منه شيء باق على حاله، وعَقّبَ على القول بأن النهي ورد لكونه يقع مع خروج النار، فقال: ولا مانع أن يكون عند خروج النار للحشر، لكن ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه والله أعلم. الفتح (13 / 81).

خامسًا: شبهة والرد عليها:

وذهب بعض المتأخرين محمد فهيم أبوعبية في تحقيقه لكتاب الفتن والملاحم لأبن كثير - في حسر الفرات، إلى معناه حسره عن الذهب البترولي الأسود.

الجواب:

 ليس المقصود بهذا الجبل من ذهب النفط أو البترول الأسود، وذلك من وجوه:-

1- أن النص جاء فيه جبل من ذهب نصًا لا يحتمل التأويل، والبترول ليس بذهب على الحقيقة؛ فإن الذهب هو المعدن المعروف.

2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ماء النهر ينحسر عن جبل من ذهب، فيراه الناس، والنفط أو البترول يستخرج من باطن الأرض بالآلات من مسافات بعيدة.

3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفرات بهذا دون غيره من البحار والأنهار، والنفط نراه يستخرج من البحار كما يستخرج من الأرض، وفي أماكن كثيرة متعددة.

4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس سيقتتلون عند هذا الكنز، ولم يحصل أنهم اقتتلوا عند خروج النفط من الفرات أو غيره، بل إن النبي "صلى الله عليه وسلم" نهى من حضر هذا الكنز أن يأخذ منه شيئًا؛ كما هي الرواية الأخرى عن أبي بن كعب رضي الله عنه، ومن حمله على النفط، فإنه يلزمه على قوله هذا النهي عن الأخذ من النفط، ولم يقل به أحد. أنظر: إتحاف الجماعة (2 / 185 186) فقد ذكر الشيخ حمود التويجري وجوهًا كثيرة للرد على هذه الشبهة.