بين أنقاض حمص القديمة وبناياتها الملطخة بدماء أصحابها، وأصوات انفجارات العبوات الناسفة، تنساب أنغام العود لتحيى ما تبقى من المدينة العتيقة، ترثى «ياسمين» حمص وساعاتها وأيامها السعيدة، «كان ياما كان الحب مالى بيتنا ومدفّينا الحنان.. زارنا الزمان.. سرق منا فرحتنا والراحة والأمان»، تلك الصورة التى نقلها المخرج السورى جود سعيد، فى فيلم «مطر حمص» الذى شارك فى مسابقة «آفاق السينما العربية» بالدورة الـ39 من مهرجان القاهرة السينمائى، حيث حظى بحضور جماهيرى طاغٍ، فى قاعة مسرح الهناجر بدار الأوبرا.
الحب فى مواجهة الحرب، الأمل يتحدى الخوف، الأغنيات تخرس أبواق الظلام والتطرف، 100 دقيقة عمر فيلم «مطر حمص»، الذى مزج الخيال بالواقع، من خلال قصة «يوسف ويارا» المحاصرين فى مدينة حمص القديمة، مع طفلين وكاهن لمدة تقرب من 100 يوم.
وعن قصة الفيلم، يقول المخرج جود سعيد: «استوحيت فكرته من سيناريو بعنوان (وقت الاعتراف) للكاتبة والصديقة سهى مصطفى، ويدور حول رجل وفتاة وكاهن محاصرين فى بناء، ومن هنا نسجنا حكاية (مطر حمص)، بطبيعتى لا أحب نقل الواقع فى السينما، حيث تخلصت من هذا الشكل لصالح الفيلم التسجيلى، الذى يفرغ أيضاً مساحة حقيقية للخيال، وبالتالى قمنا بمزج الكثير من الحكايات الحقيقية بمناطق أخرى، منها حكاية الأب الذى يقوم بتفجير قنبلة فى عائلته والمسلحين، فتلك حكاية حقيقية، ولكننا نقلنا المكان والزمان وبعض الأحداث، بالإضافة إلى الشخص الذى تعلق خلف عمود الساعة ولم يستطع التحرك، فجزء من المشهد كان حقيقياً، ومقتل الأب إليا اقتبس من الأب فرانز الذى رفض ترك حمص ولقى مصرعه على يد الإرهابيين، وذلك قبل خروج الجماعات المسلحة من المدينة بيومين، الواقع أقسى من أى خيال قد يقدم فى السينما، ولكنها الذاكرة التى تبقى، وذاكرة الإنسان عن واقعه الذى عاشه، أو رؤاه ووجهات نظره»، وأضاف سعيد لـ«الوطن»: «قررت أن أصور الفيلم داخل مدينة حمص نفسها دون الاستعانة بديكورات، لأن الأحداث حدثت فى هذه المدينة، حيث كان التصوير صعباً واستغرق ما يقرب من 100 يوم، ولكن كانت هناك توقفات، فجميع الخدمات متوقفة من مياه أو كهرباء، كما بدأنا التصوير بعد تنفيذ اتفاق خروج الجماعات المسلحة من المدينة بشهر، وبالتالى صورنا شكل المدينة وبنيتها التحتية الموجودة على سجيتها فى الواقع، لا سيما أنها لم تشهد عودة سكانها آنذاك، وكنا بمفردنا فى الأحياء إلى جانب العائلات الموجودة هناك، التى أبت أن تغادر منازلها، وأصررت على عرض الفيلم فى حمص بدار الآباء اليسوعيين، المكان الذى قتل فيه الأب فرانز، وتلقيت ردود فعل هائلة وعظيمة، والمسئول عن الدير الآن رجل دين مصرى، وأخبرته أن الفيلم سيعرض بمهرجان القاهرة وكان سعيداً بذلك للغاية»، وأشار مخرج «مطر حمص» إلى أنه لم يكن ينوى حضور مهرجان القاهرة، مؤكداً أنه تراجع عن قراره بسبب الهجوم الذى تعرض له فى الدورة الـ28 من مهرجان أيام قرطاج السينمائية، بعدما وجهت له اتهامات بـ«الدعاية لنظام الرئيس بشار الأسد»، قائلاً: «أنا لست من الأشخاص الذين يهربون من المواجهة، وأحترم كل الآراء فى السياسة والسينما، ولكن لا أقبل الهجوم الشخصى، اليوم هناك 17 مليون شخص يعيشون فى الأماكن التى تسيطر عليها الدولة، بينهم ما لا يقل عن 10 ملايين يتبنون الدفاع عن سوريا، ومن هذا المنطلق قد نقول إن الفيلم يعبر عن تلك الفئة، هل لا يحق لهؤلاء الـ10 ملايين رسم لوحة؟ فحقهم على الناس أن يسمعوهم»، وتابع: «أعتبر ردود فعل الجمهور المصرى على الفيلم بمثابة رد اعتبار لشخصى فى مواجهة تلك الاتهامات، أنا لا أحضر عروض أعمالى ولكن حرصت على الدخول قبل مشهد وفاة (أبوعبدالله) الإرهابى، لأجد أصوات التصفيق تملأ القاعة، مثلما حدث فى سوريا وتونس، حيث اخترت أن تنتقم الأنثى منه ويكون مقتله على يدها، لأن أيديولوجية أبوعبدالله تحتقر الإناث».
لم يخل الفيلم من الكوميديا السوداء والأغنيات التى قدمها بطل العمل والجنود السوريون، على الرغم من تراجيديا الأحداث التى ركزت على آثار الحرب بمدينة حمص السورية، وفى هذا الصدد يقول «سعيد»: «أى عمل يعكس جانباً من شخصية صانعه، هذا الجزء يشبهنى فى الحياة وتعاملى مع أشد المآسى، وهناك جزء آخر متعلق بمدينة حمص فهى تشتهر بالسخرية، وأهلها معروفون بالنكتة، وكانت هناك أغنيات لأسمهان، وميادة الحناوى وأم كلثوم، فالغناء المصرى أحد الطقوس اليومية للسوريين، فمثلما يستمعون إلى فيروز فى الصباح، يسمعون أم كلثوم فى الليل، وأغنية (كان ياما كان) للفنانة ميادة الحناوى لها دلالة فى الفيلم، فهى تعبر عن الناس الذين يتمنون عودة الأشياء الجميلة لهم مرة أخرى»، ولفت المخرج جود سعيد إلى أنه أدى دور الإرهابى المسلح «أبوعبدالله» بالصدفة البحتة، قائلاً: «كان من المقرر أن يقوم ممثل آخر بالدور الذى لا يتعدى مشهدين، ولكنه لم يستطع الحديث باللغة العربية الفصحى، فغضبت وقررت أن أجسد الشخصية بنفسى، وأحببت التجربة وبدأت أضيف مشاهد لذاتى، وخلال الفترة الجارية أخوض تجربة التمثيل من خلال فيلم (النورج)، من إخراج الفنان أيمن زيدان، وهو يعد العمل الثالث الذى يجمعنا، بعد (درب السما) و(مسافرو الحرب) من إخراجى وبطولته».