كان وجه الشيخ فتحي الطناني يضج بالبشاشة وهو يفتح باب المسجد الذي لازمه طيلة 40 سنة هي عمره بالروضة بعد ما ارتحل إليها قادما من مركز سعود بالشرقية، ضبط الرجل الستيني الراديو الصغير على إذاعة القرآن الكريم وقربه من الميكروفون، بدأ المصلون في التوافد. لحظات وأشار المذيع عبر الأثير إلى الانتقال لإذاعة مباشرة لصلاة الجمعة من أحد مساجد العاصمة. أغلق الشيخ فتحي " الترانزستور" وأذن في الناس للصلاة.
ما أن اعتلى الشيخ محمد زريق إمام مسجد الروضة المنبر وراح يشرع في استفتاح الخطبة بالبسملة والصلاة على النبي حتى اختلطت الكلمات النورانية بأصوات الرصاص. عندها سقط الميكروفون من يده، فيما بقي الصوت يصدح عبر مكبر المسجد ناقلا ما يجري داخله لكل أهل القرية وكأنهم يستمعون لنقل إذاعي مباشر للمذبحة.
بجسد خلا من الحياة وسكنه الرعب كان خالد محمد صاحب ال26 عاما يركض هربا، الأصوات تلاحقه بقسوة "ده لسه صاحي أضربه أدبح ده متخليش لا كبير ولا صغير مترحمهمش" كانت الكلمات يتبادلها الإرهابيون بشأن المصلين في بيت الله، فيما كان الدمع يسيل من خد الشاب العشريني وعقله يكاد يشت كلما تصور أن تلك العبارات تخص أقاربه، وكذا ينتظر مصيره المرتقب لو نظر أحدهم صوبه وهو يجري على غير هدى.
قبل تلك الأثناء وكعادته الأسبوعية، على مقربة ربع الساعة من صلاة الجمعة كان راغب رضا يغلق الصيدلية التي يعمل بها كي يلحق بالمصلين، غير أن عجوزا استأذنه أن يحضر له حقنة مسكنة للعظام، حصل الرجل على علاجه وانتابته نوبة هبوط ألزمت راغب على المكوث لدقائق. وفي طريق للمنزل التقى والده -شقيق المؤذن "قاللي انا كويت لك الجلابية هم شوية عشان تلحق الخطبة من الأول عايز اوصل ألاقيك جنبي أنا وعمك فتحي". لم يلحق راغب بالخطبة ولا جلس جوار والده لكن صوته وسط المئات وصله عبر المكبر "الرصاص كان مرعب وعويل الناس وهي بتترجى يقطع القلب أمي كانت بتبكي وبتقسم وتقول أنا سامعه صوت أبوك وهو بيتشاهد روح طمني عليه يا ولدي".
3 دقائق مرت ولم يزل خالد محمد يركض في شوارع الروضة وعقله يطن بالوساوس، لم يزل المكبر ينقل له ما يحدث "في حد كان بيقول في اللاسلكي أجري ورا الناس في الشوارع متخليش حد عايش" عندها لمح خالد سيارة دفع رباعي خلف تبة، فلزم مكانه جوار إحدى العشش، كانت الشوارع خالية إلا من بعض الشباب "شفت أصحابي عبد الفتاح ويوسف هربانين ناحية العربية قعدت أقولهم ارجعوا قالولي هيموتونا ونزل واحد من العربية اللي كان فيها 9 ملثمين وصفاهم وهو بيكبر وأنا قاعد بقول في نفسي لو شافوني مش هيرحموني".
لازال صوت الميكروفون يبعث برسائله المفجعة "عيال صغيرة بتقول عشان خاطري يا عمو وصوت لا سلكي بيرد أمسح. وأنا هتجن"، لم يقف الرعب عند ذاك الحد؛ فبعد لحظات بدأ الإرهابيون في التحرك وخالد لا يكاد يصدق أن ما يراه حقيقة. وقعت عينه على 6 شباب "من عائلة أبو ملفا سواركة قاعدين في تربيعة بدوي وهيروحوا على وقت الصلاة وتلاقيهم قعدوا من صوت الرصاص" فجأة اقتربت منهم السيارة فخرج الشباب رافعين الأيدي في استسلام غير أن الإرهابيون لم يرقوا لحالهم فأردوهم قتلى في رمشة عين ووقع قلب خالد في قدميه.
على القبر كان أحمد الطناني يكفكف الدمع على ابن عمه مؤذن المسجد الذي استشهد بعد إصابة خطيرة "قالنا أنا عايز ادفن في الروضة روحي فيها". يتساءل في وجل "أيه اللي بين الناس دي وربنا عشان يحسن ختامهم كده"، لم يغسل أحمد، الشيخ، فيما كان آخر ما يحمله عم فتحي داخل الصديري هو مفتاح الجامع وذلك الترانزستور الصغير الذي نقل كلام الله قبل أن يحتل الرصاص الأفق.