على بُعد 5 كيلومترات من قرية الروضة بشمال سيناء، تظهر شواهد القبور، تطل على الطريق الواصل بين القرية ومدينة العريش، هنا تستقر 4 مقابر جماعية لضحايا العملية الإرهابية التى راح ضحيتها أكثر من رُبع شباب ورجال قرية «الروضة»، بعدما استهدفهم متطرفون أثناء صلاة الجمعة.
طابور طويل من السيارات المملوءة بالرجال يسير فى جنازة حاشدة نحو المقابر، يحملون داخل أحد الأغطية جثماناً جديداً لضحايا الحادث، فى تلك البقعة من أرض سيناء، أخذوا يحفرون مقبرة جديدة إلى جانب تلك المقابر الجماعية التى دفعوا بالجثامين إليها دون تغسيل أو أكفان، كما يُدفن الشهداء على الهيئة التى ماتوا عليها.
تتزاحم الجموع حول المقبرة، تعلو الأصوات رافضةً خروج الجثمان من داخل الغطاء الذى يلفه من الخارج، يضعونه على هيئته التى سلّم بها روحه لبارئها، داخل الحفرة التى أحاطوها من كل جانب بالأحجار الخرسانية، ظل شيخ كبير يمسك بعصا يتكئ عليها، بجسده الهزيل وجلبابه الرث حتى استقر إلى جوار المقبرة، وأخذ يهيل على الجثمان الرمال والدموع لا تتوقف، تمالك بعض مشايخ القرية أنفسهم واتخذوا من خلف الشباب مستقراً لهم ليتابعوا عملية دفن الجثمان.
محمد حسن، بقسمات وجهه التى يحكمها الخوف، شاب ممن كانوا داخل المسجد وقت وقوع المذبحة، هرع حاملاً نجلَيه، وأخطأته رصاصات الغدر ففر هارباً، ذلك الشاب العشرينى من أبناء قبيلة السواركة، يشارك فى تشييع الجثامين يقول لـ«الوطن»، إنهم حفروا 4 مقابر جماعية، ودفعوا داخلها بالجثامين باستخدام «لودر»، وكل مقبرة بها من 60 إلى 80 جثة، دُفنت على هيئتها التى استشهدت عليها.
التوافد على المقابر التى تستقر على مقربة من قرية تسمى «مزار» تبعد بضعة كيلومترات عن قرية الروضة لا يتوقف طيلة اليوم، عربات الإسعاف القادمة محمّلة بجثامين بعض المصابين الذين وافتهم المنية داخل المستشفيات لا تنقطع عن المنطقة، حتى ظل بعض من شباب القرية داخل المقابر فى انتظار ما يصل من الجثث للمساعدة فى دفنها.
«دعبيش»: أكثر من 700 كانوا يصلون فى المسجد.. وما زلنا نبحث عن جثامين للشهداء فى شوارع القرية.. و«سليمان»: دفنا الشهداء بدمائهم وملابسهم على الهيئة التى ماتوا عليها.. ولن نهدأ قبل عودة حقهم
ويقف جمعة سليمان فى حالة من الشرود، الرجل الثلاثينى ذو الوجه المغبر بالرمال، لا يتوقف عن مساعدة الأهالى فى دفن الجثامين الجديدة، ويقول: إن جميع الجثامين دُفنت دون تغسيل أو تكفين، وُضعت داخل أغطية و«بطاطين» ودفنت بدمائها، فالشهيد لا يغسَّل ولا يُصلّى عليه، ويستطرد: «نحن احتسبناهم عند الله شهداء ولله الأمر من قبل ومن بعد».
الرجل الذى كان يوجد خارج المسجد وقت الحادث يقول: إن ما حدث لا يخرج عن مسلم ولا حتى كافر، إنها كانت مذبحة لم تشهدها سيناء من قبل، وربنا المنتقم، ويستطرد: «القرية بأكملها قُتلت وليس من توفّى فقط، الحياة توقفت ولن تعود قبل أن يعود حق مَن مات»، مشيراً إلى أن دفن الجثامين لا يتوقف حتى الآن والعدد مرشَّح للزيادة.
ويرفض «سليمان» التوقف عند الأرقام المعلنة للشهداء: «العدد أكبر من 400 أنا دفنتهم بنفسى ولسّه المصابين مش عارفين مين فيهم هيموت»، ويدلل على ذلك بأن سيارات الإسعاف فى المحافظة لم تستطِع نقل جميع المصابين، ونقل الكثير منهم باستخدام السيارات الخاصة للأهالى، مشيراً إلى إلقائهم للجثامين باستخدام لودر لصعوبة دفن جثة تلو الأخرى، ويضيف: «العدد كبير، وكان لازم ندفنهم بالليل، فإكرام الميت دفنه»، فالرجل كان يستقبل كل دقيقة عربة تحمل من 10 إلى 15 جثة قادمة من المسجد وهم يحفرون المقابر، لا يتوقف الرجل عن الدعاء: «ربنا ينتقم من الظالمين».
داخل إحدى «العشش» على الطريق الدائرى الواصل بين قرية الروضة والعريش، تتوسطها نيران موقدة على براد من الشاى وإلى جواره بضع تمرات، وأمامها يصطف عدد من السيارات تكاد تغلق الطريق الدولى، الحركة لا تهدأ، حيث جلس عدد من أهالى القرية يستقبلون العزاء فى ذويهم من ضحايا هجوم متطرفين على مسجد القرية دون صخب أو قراءة قرآن، الكل يأتى ليقدم واجب العزاء فى صمت مطبق، حيث رفض عدد من أهالى الضحايا إقامة سرادقات عزاء، واكتفوا باستقبال المعزّين من الأقارب والمعارف فى تلك «العشش» التى تنتشر بطول الطريق.
لا ينفض المجلس داخل تلك «العشش» بمجرد أن تفرغ ما بها حتى تعود لتمتلئ بالمعزّين، الذين قطعوا عشرات الكيلومترات من أجل واجب العزاء فى أقاربهم وأبناء عمومتهم من الضحايا، ووسط ذلك المجلس التى يطل من أعين الجالسين فيه الغضب والخوف، يجلس الشيخ موسى دعبيش، أحد مشايخ قبيلة السواركة، لا يعترف بالعدد المعلن للقتلى: «مات بشر لا يتعدوا، يمكن أكتر من 400 واحد»، الرجل الذى فقد نجله وشقيقه كانت المصادفة هى السبب فى نجاته، ويقول: إن المسجد كان بداخله أكثر من 700 مواطن.
ويقول «دعبيش» الذى يبدو مرهقاً: إن «البحث لا يزال جارياً حتى الآن عن الضحايا الذين نكتشف جثثهم بين منازل القرية، صباح اليوم وجدنا 4 جثامين جديدة، وفيه بيوت مفيش فيها حد غير النسوان»، وينكر الرجل وجود أى تحذيرات من جانب المتطرفين لسكان القرية، كما يقولون، موضحاً: «لو كانوا حذرونا ولا هددونا كان فيه ناس راحت الجامع، وناس خافت على نفسها وما راحتش، لكن الناس كلها فى القرية ما كانتش مخوّنة»، مشيراً إلى أنه حين وقع الحادث لم يفرق بين صوفى وغير صوفى، فالرجل شاهد بنفسه استهداف وقتل الأطفال، وذبح الشيوخ المقعدين على الكراسى.
بشعره الأشيب، وجلبابه البدوى كان «دعبيش» يجمع ما تبقّى من وعيه بما حدث، يروى قصة نجاته، فبمجرد إطلاق النيران قفز من النافذة إلى غرفة صغيرة لحمام قديم للمسجد، حاول أحد جيرانه أن يتبعه، ولكن أصابته رصاصه ليسقط داخل الغرفة فوق رأس الرجل، وظل «دعبيش» راقداً تحت جاره مختبئاً تحت هذا الجثمان طيلة وجود المتطرفين، التى يقدّرها بساعة إلا ربع، ولكن كانت الطامة حين خرج بعد رحيل المتطرفين من داخل مخبئه؛ ليجد جثمانَى شقيقه ونجله وسط الضحايا.