لم يكن انتقاد بعض الأطباء لما شاع عن الكولسترول مجرد انتقاد عادي و تصحيح لمفاهيم مغلوطة فقط، بل إنه خلق موجة دعائية عارمة تحت شعار “الكولسترول أكبر كذبة علمية روج لها اليهود”.. و تذكّر بعض المسلمين قول الله تعالى في سورة الانعام: “وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ” ووجدوا في تجنّب المفسرين التعمق في تحليل هذه الآية، مساحة لطرح أفكارهم و استنتاجاتهم، فاختلط الصحيح بالخطأ، و الكلام العلمي بالهراء.
 
و بتنبيه من صديق لي، لاحظت هذا الهرج الذي أثير عن الموضوع، خاصةً تفسير كل واحد للآيات بحسب فهمه وربطها بآراء لعلماء ربما لم يفهم حتى معناها و مقصدها، متناسين أنهم يتحدثون عن كلام رب البشر عز و جل، لذلك قررت البحث في الموضوع، في التفاسير و أقوال علماء الشريعة من جهة، و في الطب و ما يقوله في المسألة من جهة أخرى.. و هذه خلاصة بحثي:
لنكون منظمين و حتى لا نضيع بين أجزاء الموضوع، سنتكلم عن كل مسألة على حدة.
 
المسألة الأولى: الكولسترول ضار أم لا؟
لقد شاع موضوع الكولسترول شيوعا كبيرا، و دخلت فيه خرافات كثيرة نظرا للنظرة الترويجية التي تطرحها شركات الأدوية و حتى الأفلام الوثائقية التي تهدف لإثارة دهشة المشاهد،و لهذا كان لزاما تدقيق بعض المفاهيم العلمية:
– الشحم ليس مرادفا للكولسترول، فهناك العديد من أنواع الدهون غير الكولسترول كالدهون الثلاثية، و لكل منها أدوارها و أضرارها..
– الكولسترول ليس مضرا بالجملة، بل إن كثيرا من الناس يجهلون أن الكولسترول يدخل في تركيب كل خلية في جسم الإنسان، وذلك التضخيم لضرر الكولسترول كلام دعائي فقط..
– إرتفاع نسبة الكولسترول في الدم تسبب العديد من الأمراض و هي مضرة حسب الدراسات العلمية العديدة، و ميكانيزمات تأثيره مدروسة أيضا تشريحيا و بيوكيمائيا.
– ارتفاع نسبة الدهون الثلاثية في الدم كذلك مضر بالجسم، و ليس ارتفاع الكولسترول فقط، لذلك ينصح بالتقليل من تناول الشحوم الحيوانية..
– تقسيم الكولسترول إلى “كلسترول نافع” (HDL) و “كولسترول ضار” (LDL) خاص بجسم الإنسان، و ما تحدّث عنه البعض بأن بعض شحم الأنعام هو الكولسترول النافع، و البعض الآخر هو الكولسترول الضار كلام غير علمي و غير منطقي..
 
الخلاصة: الكولسترول مادة ضرورية لجسم الإنسان، و التخويف منها خرافة دعائية و ترويجية.. لكن ارتفاع نسبته في الدم مضر.. لهذا وجب التفريق بين الكلام عن الكولسترول عموما و بين الكلام عن ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم.. هذا ما أظن أن بعض الأطباء أرادوا توضيحه ففُهِم كلامهم خطأ.. و الله أعلم..
 
المسألة الثانية: هل الشحوم من الطيبات؟
لقد حدد الله تعالي بوضوح ما حرمه على اليهود: ” وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ”.
 
و قد وصف الله عز وجل في مواضع أخرى ما حرمه عليهم بـ”الطيبات” كقوله تعالى:
“الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.
و قوله عز و جل: “فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا”.
 
الخلاصة: الشحوم من الطيبات حسب ما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم..
 
المسألة الثالثة: ماذا يعني وصف أطعمة معينة بـ”الطيّبات”؟
حسب ما وجدت في قواميس اللغة، فالطيّب من الطعام هو ما تستلذه النفس، و يقال طَيَّبَ الطعام أي جعله لذيذا.. و الخبيث من الطعام نقيض الطيّب، هو الرديء المكروه..
 
و هنا، يجب التفريق بين الطِّيب و الفائدة، فما تشتهيه نفسي و تستلذه ليس مفيدا لي بالضرورة و العكس صحيح، فالذي لا تستلذه نفسي قد يكون مفيدا لي، و الله تعالى إنما حرم عليهم و منع عنهم ما تستلذه أنفسهم عقابا لهم و لا علاقة لذلك بالفائدة، هذا الفخ الذي وقع فيه معظم من تكلموا في الموضوع حيث جعلوا الطيب مرادفا للفائدة، و هو ربط خاطئ..
 
كما أن الفائدة ليست وصفا مطلقا، و علميا، من الخطأ أن نقول “هذا مفيد” و “هذا مضر” بهذا الإطلاق، لأن الأشياء التي نعتبرها مفيدة، هي في الحقيقة مفيدة في ظروف معينة و بمواصفات معينة، و مضرة في ظروف أخرى..
 
الخلاصة: إن الطيب لا يستوجب الفائدة ضرورةً.. و الله تعالى إنما حرم على اليهود ما تستلذه أنفسهم جزاءا لهم على بغيهم، و بما أن الشحم من الطيبات كما أشرنا سابقا، فيمكن القول أن الآية لا تؤكد فائدة الشحم للإنسان و لا تتناقض مع معطيات الدراسات العلمية التي ذكرناها.
المسألة الرابعة: لماذا استثنى الله تعالى من التحريم شحم الظهر و الحوايا وما اختلط بالعظم؟
هذا ما لم أجد من المفسرين و لا حتى من المتكلمين عن الإعجاز العلمي في القرآن من فسّره..
في الأخير، و في غياب دلائل نصية شرعية، و حجج علمية قوية.. تبقى كل الإجابات مجرد تخمينات و محاولات تفسيرية لا أكثر و لا أقل، و علميا لا تحتاج إلى نقاش.
المسألة الخامسة: الرد على بعض الإدعاءات
هل بإتباع النصائح الطبية نكون قد حرمنا ما أحل الله كما فعل بنو اسرائيل؟
إن الدراسات الطبية تؤكد فائدة التقليل من تناول الدهون الحيوانية، و ليس الإبتعاد عنها وتحريمها، فالجسم يملك آليات لضبط المواد الأساسية في الدم، لكن هذه القدرات لها حدود ويجب الحفاظ عليها، فإذا قيل لك قلِّلْ من تناول الملح خاصة مع تقدم السن لكي تحافظ أكثر على ضغطك الدموي، فهل هذا تحريم ما أحل الله؟
 
كما أشرنا سابقا النفع و الضرر أمور نسبية، تختلف باختلاف الكمية و النوعية و حالة الشخص و غير ذلك، أما ادعاء بأن اليهود هم من نشروا هذه الفكرة، فهذا ما لا أملك دليلا عليه، و من يعي حجم مراكز البحث و تنوع الباحثين فيها يستبعد أن تتفق الأبحاث العلمية على الخروج عن الموضوعية..
 
و لنترك هذه الاتهامات و إن اختلفنا في قوتها على جهة، و دعنا ننظر قرآنيا للشحوم، فهي لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة في تلك الآية، و ليست من الأطعمة المفيدة الكثيرة التي مدحت في القرآن الكريم أو ذكرت في جزاء أهل الجنة، و هذا ما يقوي أكثر رأي الطب في المسألة.