بعد انتشار أحد الفيديوهات المستفزة على مواقع التواصل الاجتماعي وقدرته – بشكل أو بآخر – على حصاد ملايين المشاهدات، جاءت الردود مختلفة ومتشادة من الأطراف الذين دافع البعض منهم عنه وهاجمه البعض الآخر، نتحدث هنا عن فيديو شاب بسيط يدعى أمين الفيلالي، يقوم فيه باستعراض الفرق بين المحجبة وغير المحجبة، وأسطر ألف سطر على كلمة شاب بسيط؛ لأنّ ما ظهر لنا في الفيديو لا يدل سوى على بساطة عقل الشاب الذي يوجد عشرات الملايين من أمثاله في العالم العربي.
 
لكن ما يهمنا في هذا المقال تحديدًا هو رد مدونة أردنية فلسطينية تدعى ليلى ويحمل حسابها على الفيسبوك اسم Laila Hzaineh؛ وذلك لأنّها تمكنت من خلال فيديو لا تتجاوز مدته أربع دقائق، وبمنتهى الرقي والمنطقية ودون النطق بكلمة مبتذلة واحدة، أن تسطر لنا المشاكل الحقيقية التي يمكن استنباطها من ذلك الفيديو الذي من المفترض أنّه عبارة عن “تنوير” للفتيات العربيات، إلّا أنّه في الحقيقة لم يكن سوى رصدًا جديدًا لأزمة الجهل المتجذرة في العالم العربي وما تجره معها من ظواهر مقززة.
 

متلازمة المحصن والعاصية

اكتسب الرجل عبر التاريخ حصانة اجتماعية عميقة مكنته من الفرار من العقاب والحساب بعد ارتكابه نفس الخطأ الذي تحاسب عليه المرأة، لا لشيء غير أنّه “رجل”، ومع تقدم الحضارات ووصولنا لـ – احزر! – نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، قطعت المرأة دربًا طويلًا من أجل تعزيز مكانتها والتأكد من معاملتها كما يعامل الرجل تمامًا.
 
وعلى الرغم من أنّ حتى الدول المتقدمة جدًا لا زالت لم تتمكن تمامًا من تحقيق هذه المعادلة، إلّا أنّ مقارنة المكاسب المحققة هناك مع الوضع الكائن في العالم العربي يوضح لنا ببساطة أنّنا لا زلنا في الحضيض، وأنّ الفتاة والمرأة العربية لا زالتا تعتبران عاصيتين حتى يثبت العكس منذ ولادتهما حتى الوفاة، بينما لا يزال الرجل محتفظًا بحصانته التي تبرر جميع أخطائه، ليبقى مصونًا شريفًا بريئًا حتى قيامه بعمل تنتهي معه صلاحية هذه الحصانة وتصبح غير قادرة على تغطيته.
 
هذا ما نلاحظه في هذا الفيديو العجيب الذي من المفترض أن يسلط الضوء على الفرق بين الفتاتين، المحجبة وغير المحجبة، حيث نلاحظ أنّ صاحبه أمين – البالغ الذكاء – لم يحاول حتى – كأمثاله – إظهار المحجبة على أنّها مؤدبة وغير المحجبة على أنّها غير ذلك، بل قام بإظهار الفتاتين بوضع طبيعي جدًا، بينما تظهر المشكلة فيه هو!
 
فهو الذي يتحول إلى مخلوق عجيب ينطق ببعض الكلمات الغريبة مع قيامه ببعض الحركات البهلوانية بمجرد رؤيته لفتاة غير محجبة، بينما يتحول لشاب مؤدب غاض لبصره بمجرد رؤيته فتاة محجبة … وبالطبع وكالعادة، فإنّ القليلين هم من لاحظوا أنّ المشكلة في الفيديو تكمن في الشاب المتحرش بفتاة وحيدة في حي خال من أي شخص غيرهما – وما أدراك بما يمكن أن يسببه ذلك من ذعر في نفس أي فتاة – غير القادر على السيطرة على نفسه عند رؤيته شعر الرأس، بدل الفتاة التي لم تقم بأي تصرف غير مقبول؛ لأنّ العادة تقتضي أن نضع تركيزنا دائمًا على خطأ الأنثى وتجاهل أفعال الذكر العربي.
 

حرية شخصية؟ ذكرني … عمن نتحدث؟

ينصّب – معظم – العرب أنفسهم دائمًا أسيادًا على الشخص الواقف أمامهم، يقررون إن كان جيدًا أم سيئًا من خلال طريقة كلامه، مشيته، وطريقة لباسه، بل ويقررون حتى – دون أدنى تردد – إن كان سيدخل النار أم الجنة، وحتى إن كان سيتعذب في قبره أم لا، وبالطبع فإنّ الموضوع يبلغ أبعادًا كبرى عندما يتعلق الأمر بالمرأة التي يتفنن الجميع في تقييمها منذ طفولتها …
 
فهي إمّا زوجة سيئة أو أم مهملة أو حماة قاسية أو فتاة متمردة أو “غير شريفة”، وذلك وفقًا لمجموعة من المعايير السطحية التي حددها كل شخص بشكل مختلف عن الآخر، وقرر تطبيقها على كل أنثى تظهر أمامه حتى وإن كانت لا تربطه بها أية صلة، وإياك ثم إياك أن تتجرأ وتخبره أن يهتم بشأنه الخاص وألا يتدخل فيما لا يعنيه، أو أن يتوقف عن التعدي على حرية الآخرين دون وجه حق؛ لأنّ ما ستحصل عليه في المقابل هو محاضرة طويلة عريضة عن التقاليد والعادات، يتخللها عدد كبير من الأحاديث والآيات التي – بشكل عجيب – لا تنطبق إلاّ على الآخرين!
 
المضحك المبكي في الأمر هو أنّ هذه المعايير والدروس الأخلاقية الراقية لا تبقى ثابتة، بل تختلف حسب الشخص الواقف أمام “السيد المحصن”، فمثلًا: قد ترتدي فتاة عربية وفتاة أجنبية نفس اللباس تمامًا وبحذافيره، في هذه الحالة سيتم نعت الأجنبية بالجميلة وسيتم تقييم لباسها على أنّه “طبيعي”، وأنّ اختيارها لملابسها يبقى حرية شخصية، بينما سيتم نعت العربية بأقبح النعوت وإطلاق الدعوات لها بالهداية وبالإشارة إلى حاجتها إلى التربية من جديد، ولتذهب الحرية إلى الجحيم فهي لم تُصنع للعربيات!
 
إذا اهتمت الأجنبية بألعاب الفيديو والكوميكس فهي مرحة جدًا و “فتاة الأحلام”، وإذا اهتمت العربية بهذا فهي تافهة، فهناك أمور أهم بكثير يجب عليها الاهتمام بها، إذا درست الأجنبية وتقلدت أهم المناصب فهي قوية وتعكس تقدم مجتمعها، وإذا درست العربية وتقلدت أهم المناصب فهي تقوم بخطف فرص العمل من الرجال الذين يحتاجون هذا العمل أكثر منها، وعلى فكرة … من الذي سيهتم بتربية الأبناء؟ والله أعلم أصلًا كيف وصلت لهذا المنصب وبأية وسيلة ، إذا دلل الأجنبي زوجته فذلك هو الطبيعي، وإذا دلل العربي زوجته فهو “ليس برجل” وسيندم على ذلك أشد الندم لاحقًا، وهكذا دواليك من الأمثلة المتعددة جدًا والتي تظهر النفاق وازدواجية المعايير المتجذرين في عقولنا.
 

لوم الضحية … إلى متى!

لم يقم فيديو أمين الفيلالي سوى بإعادتنا مرة أخرى إلى إشكالية لوم الضحية المغروسة في عقلياتنا، وذلك بإظهار أنّه غير مسؤول عن تصرفاته السيئة، بل إنّ الفتيات المارات بالشارع وما يخترن وضعه على أجسامهن هو الكفيل بالتحكم بأفعاله، فهن من يتحملن كامل المسؤولية فيما يتعرضن له من مضايقات، أمّا الرجل المسكين فلا حول له ولا قوة، كيف لا وقطعة ثوب واحدة على الرأس كفيلة من تحويله من حيوان إلى إنسان سوي؟
 
إذا كنت تظن أنّنا نبالغ في تصويرنا لمشكلة لوم الضحية، فدعنا نذكرك فقط أنّ هذا لا يمثل سوى جزء من الجذور الخفية للمصائب الكبرى التي تخلفها هذه الظاهرة، وعلى رأسها لوم المغتصبة والمعنفة، هذه الأخيرة التي ما إن يضربها زوجها أو شقيقها أو والدها حتى نسرع بالتساؤل: ماذا فعلت؟ بدل الإسراع بمحاسبة المعنف، أمّا بالنسبة للمغتصبة فحدث ولا حرج مما تلاقيه هذه المسكينة من معاملة مهينة ومن نظرات محتقرة ومن نبذ من المجتمع في الوقت الذي تحتاج فيه للدعم النفسي ومساندة الجميع لعلها تتمكن من تجاوز أسوأ تجربة قد تمر منها أي أنثى على هذا الكوكب. ولهذا، عزيزي القارئ ينبغي علينا أن نصلح المشكلة من خلال اقتلاع هذه الجذور التي ينظر إليها الجميع باستخفاف وكأنّها لا شيء.
 
وأخيرًا، أريد أن أشارك معكم إحدى التجارب التي عشتها بشكل شخصي أثناء عملي في مجال مساعدة اللاجئين والمهاجرين السريين، فقد كنا نستقبل عددًا كبيرًا من المهاجرات واللاجئات وعلى رأسهن – في ما يهمنا هنا – مهاجرات دول جنوب الصحراء غير المسلمات واللاجئات السوريات المسيحيات، حيث كان يتم نصحهن عند عبورهن من الدول العربية بارتداء الحجاب لعلهن يفلتن من قبضة الذئاب الذين سيقومون بالحكم عليهن من خلال شكلهن!
 
فهل تظنون أنّ هذا قد مكنهن من النجاة؟ لقد حزرتم! الجواب هو لا، ويكفينا عارًا أن نشير إلى أن عددًا لا بأس به منهن قد تعرضن للاغتصاب مرات متعددة قبل وبعد وصولهن للمغرب، وهو ما يجعلنا نستنتج أنّ المشكلة ليست في لباسهن، فكل الاحترام للمحجبات (اللاتي يعانين بدورهن معاناة أخرى من الذين يقيمون مدى “صلاحية حجابهن” إضافةً إلى تعرضهن لعنصرية شديدة في مجال العمل، وغيرها الكثير من المشكلات التي ينبغي كتابة مقال كامل عنها) وكل الاحترام لغيرهن من نساء العالم مسلمات كن أم لا، بل تكمن المشكلة في عقول أفراد مجتمعنا الذين يبدو لي في أحيان كثيرة أنّه يحتاج مئات السنين لكي يتغير …