بين المعارك الضروس التي تخوضها مصر بضراوة في مواجهة الإرهاب منذ أكثر من 7 سنوات، يدفع أبطال وشهداء دماءهم الغالية للدفاع عنها، يبكي المصريون مع كل شهيد يرتقي، تحفر أسماؤهم في لوحات الفخر والشرف، ربما تتناسهم الذاكرة مع مرور الوقت، بينما يخلد القليل ممن يحملون حكايات أسطورية داخل الوجدان. أحد هؤلاء الأبطال هو العقيد أحمد صابر المنسي، الذي تحل ذكرى الأربعين له، اليوم، بعدما استشهد في 7 يوليو الماضي، مع 10 من الجنود المصريين، بعد معركة بطولية تقدمها قائد الكتيبة "103" صاعقة في هجوم إرهابي من 40 تكفيريا على كمين "البرث" برفح شمال سيناء. "المنسي" قائداً وإنسانًا.. يقاتل مع جنوده في المعركة.. ويحضر أفراحهم بإجازته بعد أيام قليلة تواصل "مصراوي" مع أسرة الشهيد، غير أن المحاولات المضنية لم تفلح في إقناعهم بالتحدث عن حياته، وبعد أسابيع احترمنا رغبة ذويه بالوفاء لطلبه منهم بإبقاء أسرته وأطفاله الثلاثة بعيدا عن الإعلام، لنعاود المحاولة والتفاوض لتقصي حكايات من دفتر حياة "الشهيد الخالد"، لتظهر إلى العلن في ذكرى أربعينه، ويظل دائمًا "المنسي لن ينسى". قبيل أيام من ذكرى الأربعين للشهيد "المنسي"، دارت ما يشبه الحلقة النقاشية بين "مصراوي" وعدد من أصدقائه وزملائه، داخل أحد مقاهي الزمالك، ما زالت حكايات بطولة "المنسي" يرددها الجميع، يصفونه بـ"الأسطورة" كمحارب شرس، وبـ"الفذ" الذي يبهر الجميع بمجرد حضوره، وإنسانيًا يقولون إنه "دينامو" و"حجر ميزان" في حياة كثيرين. "عايش بعد ما مات"، "المنسي كان حالة مختلفة وده ظهر لما استشهد"، "مفيش شخص عدا عليه في حياته وماسبش فيه بصمة" جمل متلاحقة قالها زملاؤه بحماس في بداية الحديث عن "الشهيد الخالد". زملاؤه: حصل على فرقة "السيل" من مصر وأمريكا.. واختاره الأمريكان قائدا عليهم رغم إنه مسلم   1
"اجتمعت فيه حاجات كتير أوي فبقى موجود ومؤثر وسط كل الناس" قالها الرائد محمد وديع، صديق المنسي، قبل أن يروي نبوغه اللافت منذ كان طالبًا، حيث التحق بـ"الصاعقة" بعد تخرجه في الكلية الحربية لتميزه ولياقته البدنية العالية وبطولاته، قبل أن يتم اختياره ليخدم في "الوحدة 999 قتال"، وهي وحدة فرق الإرهاب الدولي، ليتم اختياره بعدها للحصول على "فرقة السيل" ضمن الدفعة الأولى في مصر وهو برتبة ملازم أول. زملاؤه: حصل على فرقة "السيل" من مصر وأمريكا.. واختاره الأمريكان قائدا رغم أنه عربي ومسلم يلتقط أطراف الحديث "محمد الغيطاني"، صديق المنسي، ويقول إن الشهيد حدثه عن "السيل" باعتبارها أرقى فرقة للقوات الخاصة في مصر والعالم، وتقوم على نمط معين من العمليات الخاصة "بتاخد صفوة الصفوة والخلاصة ويتم إعدادهم بشكل مختلف"، ويشير "وديع" إلى أن أكثر من ألف شخص التحق بالدفعة الأولى من "السيل" بينما لم يكمل منهم غير 37 فقط "المنسي كان واحد منهم"، وأنها فرقة شديدة الصعوبة، وفي أمريكا ينجح واحد من كل 5 أشخاص في الالتحاق بها.
2 لاقى "المنسي" صعوبات للحصول على "فرقة السيل" من أمريكا، بحسب "وديع"، ويضيف "وجد عراقيل من المعلمين بالفرقة الذين ميزوا ضده كونه عربي ومسلم "لأن كان أغلبهم جاي من أفغانستان وكانوا مصابي عمليات في حروب ضد المسلمين"، واعتبروه عدوا لهم أرسلته دولته للتدريب لديهم، فحاولوا إحداث وقيعة بينه وزملائه داخل الفرقة، يصمت قليلا ويكمل، استطاع "المنسي" بشخصيته أن ينال إعجاب زملائه لدرجة أنهم أصبحوا يختارونه قائدا لهم خلال تقسيمهم مجموعات أثناء التدريب "بشطارته وصل الأمريكان إنهم يقولوله إنت القائد بتاعنا في المهمة". صديقه: "المنسي" كان متعين قائد في "أنشاص" لكنه تطوع يروح سيناء مكان زميله 3
التحاق "المنسي" للعمل كقائد كتيبة في سيناء قبل استشهاده جاء بالصدفة، بحسب "وديع"، فيشير إلى أنه "تطوع" لتولي قيادة الكتيبة "103" خلفًا للشهيد رامي حسنين، بعد حدوث ظرف طارئ لقائد الكتيبة المعين آنذاك بعد استشهاد "حسنين"، وطلب "وديًا" من قياداته بإمكانية استبداله مع زميل آخر، وعرض الموضوع على المنسي الذي كان قائداً لكتيبة في أنشاص بالشرقية "خلاص كان اتعين ومش هينفع يروح سيناء"، ليوافق بلا تردد "قاله أروح طبعًا يا فندم". صديقه: الشهيد رامي حسنين ليس قائده.. وبوست "المنسي" اتفهم غلط 4
عقب استشهاد "المنسي" تداولت وسائل الإعلام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي نعيًا كتبه للعقيد رامي حسنين باعتباره قائده، حيث كتب "في ذمة الله أستاذي ومعلمي.. اتعلمت على إيده كتير، شهيد بإذن الله العقيد رامي حسنين، إلى لقاء شئنا أم أبينا".، يوضح "وديع" أن "حسنين" لم يكن قائده بمفهوم الخدمة العسكرية فهو زميله بمدرسة الصاعقة لكنه لم يخدم معه، كما أن الفارق بينهما "دفعة واحدة" وهو ما لا يصل إلى وصفه بقائده "اللي الناس مش عارفاه إن الشهيد رامي حسنين أستاذه على اعتبار الأقدمية"، ويقول أحد زملائه إنه كان يمكن أن يصفه بـ"الأقدم منه" أو من طلبة الدفعة التي استقبلته بالصاعقة، لكنه آثر وصف القائد لأخلاقه الرفيعة "ده زيادة أدب واحترام وتربية". صديقه: "المنسي" كان قائدا في "أنشاص".. لكنه تطوع يخدم في سيناء مكان زميله 5 المنسي يلقي القبض على أحد التكفيريين
عداوة كبيرة تأججت ما بين التكفيريين بسيناء والشهيد المنسي منذ بداية خدمته في أرض الفيروز كقائد كتيبة خلفًا للعقيد رامي حسنين بعد استشهاده في إحدى المعارك، يذكرها صديقه الرائد محمد وديع، فيقول إنها حدثت مع أول عملية يقودها "المنسي" في سيناء، بعدما قتل مجموعة من التكفيرين، وأنه بعد انتهاء المعركة التقطت أعين "المنسي" أحد أجهزة اللاسلكي الخاصة بالتكفيريين ملقاة على الأرض بينما يسمعون بثه، ليهتف بعلو الصوت يتوعدهم ويفصح عن اسمه "قالهم أنا المقدم أحمد المنسي، جتلكم يا كلاب".
6 لا يُعرف اسم وشكل الضابط الذي يقاتل في سيناء أمام التكفيرين عادة إلا بعد مرور فترة من الوقت، بحسب "وديع": "عشان ما يتأذيش، بناخد احتياطات أمن لتأخير كشف هويته قدر الإمكان"، بينما يفسر محمد الغيطاني، أحد أصدقاء "المنسي" تصرفه وخروجه عن العرف السائد بشجاعته الكبيرة ورغبته في أن يكون قدوة في البسالة أمام جنوده ولكي يعدهم لمواجهة عدو خسيس "واحد ماستخباش، مقاتل صاعقة من الطراز الأول". قبطي يشارك في "ختمة القرآن" للمنسي.. ويهديه رسمة "السيل" على قبره 7
تأثير "المنسي" في المحيطين به وصل إلى قيام قبطي بعمل لافتة "شاهد" قبره ومشاركته في "ختمة قرآن" للشهيد، وفقًا لأحد زملائه، فيقول إن أحد الأقباط يدعى "جون لمعي" وهو من الحاصلين على فرقة رقم 6 بـ"السيل" بينما كان الشهيد ضمن أول دفعة بها والتي تعد أرقى فرقة للقوات الخاصة بمصر والعالم، وأنه قرأ له الجزء رقم 14 في "الختمة" التي شارك فيها زملائه.
يضحك ويذكر أن زميلهم القبطي يخشى من عدم تصديقهم لوفائه بقراءة الجزء الذي حدده "فدخل على جروب فيس بوك وأقسم إنه قرأ له جزءا من القرآن"، ويضيف أنه لم يكتف بذلك وبعد أسبوع من دفن الشهيد صنع لافتة من الرخام تحمل اسمه "شهيد عقيد أركان حرب أحمد صابر منسي" وشعار مرسوم لفرقة "السيل" وآية قرآنية عن الشهادة. "المنسي" و"إبراهيم الرفاعي".. علاقة فريدة بين شهيدي أكتوبر والإرهاب    "المنسي" كان يشتكي أمام قبر "الرفاعي".. وزوجته قالت له "متقلقش على مصر" 899
علاقة فريدة نشأت بين "المنسي" والشهيد إبراهيم الرفاعي، شهيد حرب أكتوبر من أبطال الصاعقة، بحسب أحد زملائه، بدأت بتأثره ببطولة "الرفاعي" وقتما كان طالبًا يدرس تاريخه وأسلوب قتاله داخل مدرسة الصاعقة، وبلغت مداها عندما واظب على زيارة قبره في أوقات حزنه أو انزعاجه من شيء "كان بيروح يشتكي عند قبر إبراهيم الرفاعي، ويتكلم معاه في اللي حسه، ويقوله ليه يا فندم يحصل كذا أو ليه وصلنا لكده.. يفضفض وياخد بعضه ويمشي وخلاص".
يصمت قليلا ويضيف متعجبًا أن الشهيد المنسي لم ير "الرفاعي" فالآخير استشهد في 19 أكتوبر 1973، بينما وُلد "المنسي" بعد 5 سنوات من حرب أكتوبر لكنه كان يزور قبره باستمرار، ويقول "وديع" إن "المنسي" رأى في "شهيد حرب أكتوبر" فكرة الرمزية والبطولة باعتباره شهيد عمليات وقائد حارب اليهود وهزمهم "مكنش لاقي حد يفهمه عن الشغل فبيروح يكلم الرفاعي في قبره". "أكتر الحاجات اللي كانت تشغله هي مصر" يقول "وديع"، ويوضح أنه كان مهمومًا بمصر وما تمر به من محن، خاصة بعد انتشار العمليات الإرهابية، ويروي مشهدا لزوجة المنسي عندما دخلت لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وتعجب الواقفون مما قالته "متقلقش على مصر، هتبقى كويسة عشان انت ترتاح"، يلتقط أنفاسه ويضيف متعجبًا أنها لم تطمئنه على أبنائه أو أسرته "مقلتلوش حتى متقلقش على ولادك ولا اطمن يا أحمد إحنا هنبقى كويسين" يصمت قليلاً ويقول "أقسم بالله حصل وهو في الثلاجة، شفنا ده كنا بعنينا". زميله: تعامل مع العسكرية بشرف.. ولم يطمح لمنصب رغم الكفاءة 10
تأثير كبير تركه "المنسي" في نفوس جنوده وضباطه نتيجة اهتمامه بالجوانب الإنسانية، بحسب زملائه، فيقولون إنه كان "بيتضرب بيه المثل"، "عايش زيهم، وكتفه في كتف رجالته.. شافوا فيه سمات البطل اللي نفسهم يبقوا زيه"، ويقول "وديع" إنه كان يتعامل مع الخدمة العسكرية من منطلق "البطولة والشهادة" ولم يطمح في منصب رغم مؤهلاته الكبيرة "ده مكنش في حساباته رغم إنه عنده اللي يوصله يبقى في يوم واحد من كبار القادة". 
11 يلتقط "الغيطاني" أطراف الحديث منه، ويروي أنه كان يناقشه في إحدى المرات حول فكرة تركه للصاعقة والتحاقه بسلاح المشاة، لكي يؤهله لتولي مناصب داخل القوات المسلحة وهو ما رفضه بشكل قاطع لعلمه باتخاذه موقعًا متأخرا عن جنوده، نتيجة اختلاف المهام والوظيفة داخل سلاح المشاة "قالي أنا أرجع كيلو ونص ورا رجالتي، كان عارف إن موقع القيادة فيها بيبقى ورا شوية عشان يقدر يدور المعركة بشكل متسع". 12 على الجانب الإنساني، حرص "المنسي" على مجاملة جنوده وضباطه في أفراحهم وأحزانهم، فيقول "وديع" إنه كان يحصل على إجازة أسبوع أو 10 أيام بعد مدة شهر، وكثيراً ما كان يسافر إلى محافظات الصعيد لمجاملة عسكري معه بالكتيبة ومساعدته في تجهيز فرح أو غيره "كان حجر ميزان ودينامو حياة ناس كتير من جنوده".
يتذكر زميله مشهدا أخيرا، فيقول إن بعد أسبوع من استشهاد المنسي ودفنه ذهب زملاؤه لدفن شهيد آخر بمقابر قريبة من قبره، وبعدما انتهوا توجه الجميع إلى قبر المنسي "كان أكتر من 150 واحد من الجيش واقفين بيقروله الفاتحة، حسينا إن المنسي بيتدفن من جديد".