جولة مصرية جديدة إلى عمق القارة الإفريقية، يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم الإثنين، إلى أربع دول، في إطار السعي المصري لتوطيد العلاقات مع الدول الإفريقية، والعودة الفعالة لدور القاهرة في قلب القارة السمراء، ويرافقه فيها كل من وزراء الخارجية والري والتجارة والصناعة، وتعكس اختيارات الوزراء لهذه الزيارة، الملفات التي سيتم طرحها في اللقاءات الثنائية بين الجانبين.
الملف المائي، هو أحد الملفات المهمة والشائكة في آن واحد، والتي تخوض مصر الدفاع عنه، أو بالأحرى محاولة الحفاظ عليه باستماتة، في ظل – لا نبالغ إذا قلنا- تكالب إفريقي على الإضرار بمصالح القاهرة المائية، لحد قد يصل لتجفيف شريان حياتهم الوحيد (نهر النيل)، الذي يحيى بجريان مياهه المصريين، وتتدخل فيه قوى إقليمية، لزيادة "سُعار" هذا التكالب على مصر، وتأجج بين الحين والآخر الخلافات بين دول وأبناء القارة الواحدة.
الجولة المصرية الجديدة، لها أهمية كبيرة، خاصة وأنها تأتي بعد شهور قليلة من "قمة رؤساء دول حوض النيل"، التي دعا الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، إليها رؤساء دول حوض النيل؛ للجلوس على مائدة المفاوضات، من جديد؛ للوصول إلى صيغة توافقية ترضى عنها جميع الأطراف، بما لا يضر بمصلحة دولة المصب المصرية، ورغم الأمل الذي كان يحدو المصريين تجاه هذه القمة، إلا أن الرياح لم تأت يومًا بما تشتهيه السفن، فقد اعتذر جميع رؤساء دول حوض النيل عن الحضور، وأوفدوا نوابهم بدلًا منهم للحضور، مما يشير – ولن نبالغ في هذا الموضع أيضًا إذا قلنا- إلى اتفاق إفريقي جماعي، للضغط على مصر في ملف المياه.
اختيار كل من تنزانيا ورواندا وتشاد، في الجولة الإفريقية الجديدة لرئيس الجمهورية، لها دلالات خاصة فيما يتعلق بالشأن المائي، فإن كان عنوان الزيارة الواضح، هو توطيد التعاون في العديد من المجالات، فإن العنوان الأبرز لهذه الزيارات هو ملف المياه، ومحاولة الحفاظ على كل قطرة حفظها التاريخ لمصر من منبعها.
تنزانيا ورواندا، كانتا من الدول الإفريقية الخمسة، التي وقعت على الاتفاقية الإطارية لإعادة توزيع حصص مياه النيل بمدينة عنتيبي الأوغندية، والمعروفة بـ"اتفاق عنتيبي"، بإدعاء حصول مصر على حصة كبيرة من مياه النيل، بموجب اتفاقيات تاريخية، يجب إعادة النظر من جديد في بنودها، وهو ما رفضته كل من مصر والسودان، نظرًا للضرر الذي سيلحق بهما.
الزيارة الإفريقية لرئيس الجمهورية، تأتي أيضًا بعد عدة جولات من المفاوضات تواجدت مصر فيها وسط دول حوض النيل؛ للوصول إلى صيغ توافقية حول النقاط الخلافية، من الاتفاقية الإطارية "عنتيبي"، وذلك على مستوى وزراء المياه؛ لمناقشة الجوانب الفنية المتعلقة بالاتفاقية، إلا أن الاجتماعات باءت نتائجها بالفشل، لتبقى تلك النقاط الخلافية معلقة، دون وضع حلول لها، أو على الأقل التقارب في وجهات النظر حولها.
بدا واضحًا من خلال متابعة سير المفاوضات، أن ملف المياه بالنسبة لمصر، تجاوز مرحلة التباحث حول النقاط الفنية، وأخذ بعدًا جديدًا، محاطًا بإطار سياسي، مما استلزم معه تصعيد قضايا المياه إلى المستوى الرئاسي، وربما تسببت في تعثر سير المفاوضات مع دول حوض النيل، دولًا إقليمية، أرادت تصفية حساباتها مع مصر، واستغلت فيه عوز دول القارة السمراء، كذريعة لتحقيق أهدافها في المنطقة، وباتباع تلك الدول هذا النهج، أصبح وضع قضايا المياه لا يحتمل التأجيل، ولا ينفع معه التسويف، ولم يعد من المُجدِ إعطاء دول الحوض ظهرها لمثل دعوات الحوار.
زيارة السيسي لدولتين رئيسيتين من دول حوض النيل، وعضوتان بارزتان في اتفاق عنتيبي، قد تأتي في إطار محاولة إذابة الجليد، الذي أحاط بطاولة المفاوضات، وإلقاء حجر من جديد في مياه التفاهم الراكدة، وبشكل أو بآخر فهو يغلفها هدف الحفاظ على مياه مصر من منبعها.
دولة تشاد، ليست إحدى دول حوض النيل، وربما تأتي زيارة رئيس الجمهورية لها، في إطار الملف الأمني في ليبيا، التي صار تحقيق الاستقرار فيها، جزءًا من استمرار واستقرار الأمن على الحدود المصرية الغربية، إلا أن دولة تشاد، تتشارك مع مصر مائيًا بشكل آخر.
الاتصال المائي بين مصر وتشاد، ليس من خلال أنهار أو بحيرات، أو بمعنى أدق ليس ارتباطًا من خلال مياه سطحية جارية، ولكن من خلال مياه جوفية "عظيمة"، يستلزم الحفاظ عليها تعاون وترابط جميع الدول المتشاركة فيها، وربما تتطرق المباحثات خلال زيارة الرئيس السيسي لها، إلى قضية المياه، بحيث لا تتكرر أزمات المياه في دول حوض النيل، ولكن بشكل مصغر، على مستوى الدول المتشاركة في خزان الحجر الرملي النوبي، الذي تتشارك فيه كل من مصر والسودان وليبيا وتشاد، ويغطي حوالي مليوني كيلو متر مربع، أسفل رمال صحراء هذه الدول، ليظل ما يحويه من مياه، والتي تقارب -وفقًا لخبراء- تريليون متر مكعب، آمنة من النزاعات والصراعات.
النقاط الخلافية بين مصر ودول الحوض، خرجت من نطاق الاختلاف في وجهات النظر، والقلق من الأمور الفنية، لتأخذ صورة اتهامات متبادلة بين أشقاء القارة السمراء، ويعول المصريون على زيارات السيسي المستمرة لها، لتبديد هذه الخلافات.
ورغم أن هذه الاتهامات، أو ما يجب تسميته بالاختلافات في وجهات النظر، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ويمكن الوصول لحلول لها إذا صدقت نوايا دول نهر النيل في إيجاد تلك الحلول، خاصة وأن مصر لم تأل جهدًا في التغاضي أحيانًا، والقبول بأمور في أحيان أخرى، قد تضر بمصلحتها المائية، إلا أن مصر قبلتها بصدر رحب في سبيل تحقيق التنمية المنشودة، في بلدان الجيران بالقارة السمراء.
ولذلك، فإن وضع جميع مصادر المياه بالقارة في الاعتبار، والحفاظ على الحقوق التاريخية لدول المصب، انطلاقًا من قواعد الانتفاع المشترك بين الدول دون استئساد، وتنفيذ مشروعات تنموية لاستقطاب فواقد مياه النيل، بالبرك والمستنقعات، وتجميع مياه الأمطار، لهي سبل بسيطة، يمكن تحقيقها، لإعادة الترابط الإفريقي، ولتصبح المياه وسيلة "قديمة"؛ لإعادة الترابط من جديد بين دول الحوض، من خلال شريان يمر بـ 10 دول، يسري به سائل الحياة دون انقطاع، بسبب سدود قد تسبب "الجلطات" في مجرى هذا الشريان، والتي قد تؤدي لوفاة شعب طالما كان نهر النيل سببًا في حياته.