قصة هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قصة مختلفة بشكل كبير عن هجرة بقية الصحابة رضي الله عنهم؛ فبينما كان الصحابة عمومًا يُهاجرون سرًّا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا! وكانت له أهداف من وراء هجرته بهذه الصورة، ولنراجع الروايات التي شرحت أمر هجرته رضي الله عنه ثم نتناولها بالشرح والتحليل:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ هَاجَرَ إِلا مُخْتَفِيًا، إِلا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ لَمَّا همَّ بِالْهِجْرَةِ تَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَتَنَكَّبَ قَوْسَهُ، وَانْتَضَى فِي يَدِهِ أَسْهُمًا، وَاخْتَصَرَ عَنَزَتَهُ، وَمَضَى قِبَلَ الْكَعْبَةِ، وَالْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِفِنَائِهَا، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا مُتَمَكِّنًا، ثُمَّ أَتَى الْمُقَامَ فَصَلَّى مُتَمَكِّنًا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى الْحِلَقِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَقَالَ لَهُمْ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، لا يَرْغَمُ اللهُ إِلا هَذِهِ الْمَعَاطِسَ، مَنْ أَرَادَ أَنْ تَثْكُلَهُ أُمُّهُ، وَيُوتِمَ وَلَدَهُ، وَيُرْمِلَ زَوْجَتَهُ، فَلْيَلْقَنِي وَرَاءَ هَذَا الْوَادِي. قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا تَبِعَهُ أَحَدٌ إِلا قَوْمٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عَلِمَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ وَمَضَى لِوَجْهِهِ.
وقال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ب قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعْنَا لِلْهِجْرَةِ اتَّعَدْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قُلْنَا: الْمِيعَادُ بَيْنَنَا التَّنَاضِبُ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ لَمْ يَأْتِهَا فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ عِنْدَهَا أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ، وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ، وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.
ومرَّ بنا قول الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ب: «أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم..».
ظهر لنا من هذه الروايات أن عمر رضي الله عنه لم يُهاجر جهرًا فقط؛ إنما تَعَمَّد أن يُعْلِم زعماء قريش بهجرته! فطاف على مجالسهم في الكعبة مجلسًا مجلسًا، وأخبرهم في تحدٍّ صارخ أنه سيهاجر؛ بل استفزَّهم بشكل آخر عندما طلب منهم صراحةً أن ينازله مَنْ يدَّعي الشجاعة فيهم!
والسؤال: لماذا فعل عمر رضي الله عنه ذلك؟! ولماذا هاجر جهرًا بينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه سرًّا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشَرِّع، وسوف يَتَّبعه في طريقته عموم المسلمين؛ سواء في زمان مكة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يوم القيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه، وليس مطلوبًا منهم ذلك؛ إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة عملية الهجرة؛ فالهجرة في حدِّ ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنُّب كل المعوِّقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجوا علانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومع ذلك فهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يُرهب به أعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرنا الله عز وجل به في كتابه فقال: &O4831;وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ&O4830; [الأنفال: 60]، وقد وقعت الرهبة فعلاً في قلوب الكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر رضي الله عنه أحدٌ؛ بل أكثر من ذلك لقد هاجر معه رضي الله عنه عشرون من ضعفاء الصحابة رضي الله عنهم، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه في قوله وهو يصف إسلام عمر رضي الله عنه ثم هجرته وإمارته: "إنَّ إسْلاَمَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً".
وقد وضح لنا من هجرة عمر رضي الله عنه كذلك أنه كان على تواعد مع اثنين من المسلمين بعيدًا عن أرض مكة ليهاجرا معه بالإضافة إلى الضعفاء العشرين، وهذان المسلمان هما: عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص ب، وكان خروج هذين الصحابيين سرِّيًّا؛ لأن لهما وضعًا خاصًّا يمنع خروجهما علنيًّا ولو بصحبة عمر رضي الله عنه؛ فالأول هو أخو أبي جهل من أُمِّه، وأبو جهل ليس رأس الكفر فقط؛ ولكنه خال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد يتعذَّر على عمر رضي الله عنه أن يقوم بمواجهة كبيرة معه، فكان الأسلم لعياش رضي الله عنه أن يُهاجر سرًّا، والثاني هو ابن العاص بن وائل الزعيم المكي المشهور، وللعاص بن وائل كذلك علاقة بعمر بن الخطاب رضي الله عنه!
فالعاص هو كبير قبيلة بني سهم، وكانت بنو سهم في حلف مع بني عديٍّ قومِ عمر رضي الله عنه، وكان بعضهم يُجير على بعض؛ بل قد مرَّ بنا عند الحديث عن إسلام عمر رضي الله عنه أن العاص بن وائل شخصيًّا كان قد أجار عمر رضي الله عنه عندما اجتمع الملأ عليه ليضربوه أو يقتلوه، فليس من المنطقي الآن أن يخرج عمر رضي الله عنه وفي يده هشام بن العاص بن وائل متحدِّيًا الرجل الذي أجاره منذ سنوات قليلة، فضلاً عن أن هشام بن العاص كان من المهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم عاد إلى مكة قبيل بيعة العقبة الثانية فحبسه أهله؛ ومن ثَمَّ لا يقدر على الظهور في الهجرة، فكان هذا الاتفاق السِّرِّيُّ مع عمر رضي الله عنه، ولا يخفى علينا أن احتماليات الصدام مع المشركين في حال اعتراضهم على هجرة عياش أو هشام ب قد تعوق هجرة الضعفاء العشرين الذين صحبوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن هنا كان التأكيد على سِرِّيَّة العملية.