وقفت السيدة منى الشيخ أمام موظفة التأمينات متشحة بالسواد متحاملة على آلامها حتى تحصل على حقها من معاش زوجها الراحل، منتظرة بلهفة رد الموظفة التي تتفحص شهادة الوفاة بكلل ربات البيوت الكسالى، تعبث بجهاز الكمبيوتر ثم تتبسم في برود وسخرية:" لا يا حبيبتي. ده مش متوفي"!

هنا تضحك منى فهذا هو حقاً "الهم اللي يضحك".. وترد عليها بلهجة أشد سخرية: بجد! طيب ألحق أروح أحضر الغدا ..

بهذه الجملة الساخرة المبكية في مشهد عبثي متكرر تبدأ منى حكايتها..

تزوجت منى من قرة عينها الراحل وهي في الرابعة والعشرون من عمرها ليبدأن سوياً بيتاً مصرياً مكافحاً تملؤه المحبة وتحفه الملائكة لتحمي صغيرها.

تكبر العائلة ويزدهر دخلها ليرتفع معها طموح الشابين في مزيد من الارتقاء بمستوى الصغيرين على كافة النواحي، ليلتحقوا بمدارس اللغات ويتلقنوا التمارين الرياضية بأحد النوادي التي أصر الأب الراحل أن يشترك بها بأقساط من راتبه حتى ينعم أبنائه بالصحة، لم يتوانى هذا الأب الحنون عن إسعاد صغاره وغمرهم بحنانه كأنه يعلم أن الفراق قريب.

رحل الزوج الشاب فجأة ليترك منى ذات السبعة والثلاثين عاماً أما لطفلين 9 أعوام و11 عاماً لا يدركون أن الأسوأ قد آن أوانه.
ثمانية عشر يوماً بين ذلك اليوم الذي أشتكى زوج منى من آلام في المعدة رافقتها حرارة مرتفعة عدة أيام بينما يطلعهم الطبيب أن الزوج قد التهم جسده السرطان، وبين النهاية.

رحل الزوج الشاب فجأة ليترك منى ذات السبعة والثلاثين عاماً أما لطفلين 9 أعوام و11 عاماً لا يدركون أن الأسوأ قد آن أوانه.

لا تملك منى رفاهية الحزن، فالصغار بحاجة لأم وأب ومال ليستكملوا حياتهم. أمد الله منى صبر الخنساء فاحتسبت حبيبها في جنته وربطت على قلبها وحملت مسؤولية أيتامها على عاتقها وأخذت تفكر كيف سأتولى نفقاتهم دون المساس بتعليمهم ومستقبلهم؟ ثم قررت أن تبيع كل ما تملك كل غالٍ وزهيد بل كل ما يمكن بيعه لتحوله لنقود

وبعد ما انتهت وجدت الحصيلة أما أن تكفي التعليم أم الطعام!! لكن منى كانت تضع دوماً صغارها نصب عينيها فكان خيار المستقبل هو الخيار الأوحد وإن كفت عن الطعام.

تدهور دخل الأسرة رغم تدبير منى فتنازلت عن كل مُرهِق لميزانيتها الضعيفة وأصبح للطعام وللملبس ولكل شيء حدود إلا صبرها وإيمانها بالله فقالت بداخلي دوماً يقين "بكره هعيش أحلى أيامي". لكن الصغار يريدون اليوم الذي لا تملك تكلفته لتضمن لهم حد الكفاية هنا أخذت تفكر ماذا يمكن أن ينقذ الدخل بعد أن تركت عملها بعد الزواج ولمدة جاوزت العشرة أعوام لتعتني بالصغار وكان الزوج الراحل يكفل حياة كريمة لأسرته، فتوصلت أنها تجيد الطهي، فأعلنت لكل من تقابله رغبتها بالعمل كطاهية وأنها تجيد أعمال المنزل!

طرقت منى أبواب البيوت بأناقتها التي لم تفقدها يوماً بما كانت تمتلكه في الماضِ بثبات المحاربات تعمل ما يطلب، تساعد في الأعمال المنزلية من نظافة لترتيب المنزل لطهي
قاطعت منى "ألم تشعري بالخجل؟

أجابت بابتسامتها التي لا تفارقها دوماً "أنا بشتغل بالحلال وأي قرش ولادي أولى بيه".

طرقت منى أبواب البيوت بأناقتها التي لم تفقدها يوماً بما كانت تمتلكه في الماضِ بثبات المحاربات تعمل ما يطلب، تساعد في الأعمال المنزلية من نظافة لترتيب المنزل لطهي، تتناول بفخر بيدها " الشقيانة" ثمن عرقها لتعود إلى صغارها باحتياجاتهم من كتب مدرسية أو بعض اللحوم المصنعة على سبيل المفاجآت النادرة الحدوث.

"قررت ألم الفكة اللي عالأرض"هكذا قالت منى عندما قررت أن تتوجه للتأمينات الاجتماعية أملاً في البحث عن حقوق صغارها في معاش والدهم والذي لن يتجاوز 350 جنيه، لكنها تؤمن أن "نواية تسند الزير" في ظل عملها غير الثابت فهي دائماً " تحت الطلب".

أصبحت منى تذهب إلى التأمينات في الأيام التي لا تعمل بها لتصطدم منى بالبيروقراطية المصرية في أكثر مؤسسات الدولة خدمة للشعب، لتجد القسوة تتجلى في أوجها.

مرات ومرات تتكبد فيها وحدها ثمن اليوم الضائع حتى كانت النهاية عند شباك الموظفة التي لم تتحقق من بيانات شهادة الوفاة لتتهكم بسخف لا يتقبله عقل أن زوجها لم يمت.

لترحل منى دامعة القلب تبحث عن دخل يغنيها عن سؤال اللئيم.

"هذه القصة حقيقية، لواحدة من بطلات كثيرات يتحملن في صمت، يحاربن بإرادة قوية، يتكبدن عناء وقسوة المجتمع، ليصلن بأبنائهن لبر الأمان"