توجه الشاعر أحمد شفيق كامل إلى منزل الموسيقار كمال الطويل، ومعه نص أغنية وطنية جديدة لعبدالحليم حافظ، قرأ«الطويل» وعبدالحليم الكلمات، وحسب وصف «مجدى العمروسى»، مدير أعمال عبدالحليم وصديق عمره، فى كتابه «أعز الناس»، طبعة خاصة: «أخذا ينظران إلى بعضهما فى صمت غريب، الكلمات جديدة ومتطورة ليس لها مثيل فى الغناء أو التلحين قبل ذلك، واحد يخطب فى الناس يقول: «إخوانى، يردوا عليه ويحاوروه ثم يحكى حكاية مصر مع أمريكا والبنك الدولى وبناء السد العالى، إلى آخر ما جاء بالأغنية».
الأغنية هى «حكاية شعب» التى تعد واحدة من أهم الأغنيات الوطنية فى تاريخ مصر، وكلماتها التى أثارت عبدالحليم والطويل تبدأ بـ«قلنا حانبنى وآدى احنا بنينا السد العالى/يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالى/من أموالنا بإيد عمالنا هى الكلمة وآدى احنا بانينا».
عبرت الكلمات عن معركة بناء السد، التى شهدت تحديا عظيما من مصر لرفض أمريكا والبنك الدولى تمويل بنائه، فرد عبدالناصر على ذلك بتأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956، وقوله بتحدى: «سنبنيه حتى لو بالمقاطف والفؤوس».
كان عبدالحليم حافظ «وقتئذ هو ملك الغناء الوطنى، الذى فجرته معارك ثورة 23 يوليو 1925 طبقا لرأى كمال الطويل لى فى لقائى معه عام 1996، وكان هذا الغناء سلاحا لحشد الجماهير العربية فى معارك الاستقلال الوطنى، التى يقودها «عبدالناصر» فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، ويذكر الدكتور هشام عيسى، الطبيب الخاص لعبدالحليم، فى كتابه «حليم وأنا» دار الشروق–القاهرة: «ظل عبدالناصر يذكر دور الغناء فى حشد التأييد لمبادئ الثورة، وحين تعرضت بعض الصحف لنقد الحياة الشخصية لحليم بعد ذلك، خاطب عبدالناصر الصحفيين قائلا: إنه يعتبر حليم جهازا إعلاميا وسفارة متنقلة لمصر وللقومية التى يدعو إليها، وانتقد الإساءات الشخصية له ولأمثاله من الرموز الوطنية».
فى هذا السياق، جاءت أغنية «حكاية شعب»، ويروى «العمروسى» ظروف تقديمها، مشيرا إلى أن نقاشا حادا وصاخبا حدث بين ثلاثى الأغنية «عبدالحليم، شفيق، الطويل»، كان عبدالحليم متحمسا، والطويل متخوفا من التجربة، ومبرره أن الجمهور غير متعود على هذا الشكل، وأحمد شفيق كامل مناصرا للأغنية.
كانت الأغنية سيتم تقديمها فى حفل بأسوان بمناسبة افتتاح السد العالى فى مثل هذا اليوم «10 يناير 1960» بحضور الرئيس شكرى القوتلى رئيس الإقليم الشمالى «سوريا» فى دولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة»، والعاهل المغربى محمد الخامس، وولى عهده الأمير الحسن «الملك فيما بعد»، ويذكر «العمروسى» أن «الطويل» كانت درجة حرارته أثناء هذه المناقشات 39 درجة، ومع ذلك أنجز اللحن، وأجريت البروفات، وأجمعت التعليقات على أن اللحن إما ينجح نجاحا لم يتحقق لأغنية من قبل، وإما يفشل فشلا ذريعا، وقال عبدالحليم: «أنا اللى حاغنى وحاواجه الناس وأنا المسؤول».
كان جلال معوض هو مذيع الحفل، ورفض عبدالحليم أن يقرأ كلمات الأغنية، مفضلا أن تكون مفاجأة، يضيف «العمروسى»: «دخلت الفرقة ودخل الكورال وبدأوا الغناء، ثم دخل عبدالحليم فى موعده من الجملة الموسيقية التى سيبدأ منها الحوار مع الكورال، وفات الجزء الأول والصمت الرهيب يشمل عشرة آلاف متفرج، لم ينطق أحدهم بكلمة، ولا استحسان ولا تصفيق ولا معارضة، سكوت تام وكأن المكان ليس به أحد على الإطلاق».
أنهى عبدالحليم الأغنية، وحسب العمروسى: «بمجرد أن قام بحركة الانتهاء وقفل الأغنية، حدثت المفاجأة التى أذهلتنا جميعا، عاصفة من التصفيق لم أسمعها فى حياتى، وصيحات هستيرية من عشرة آلاف نفس، صفق جمال عبدالناصر بهستيرية، وجميع رجال الثورة واقفون على أقدامهم يصفقون، ويشيرون لعبدالحليم أن يعيد الأغنية»، وطلب «عبدالناصر» من عبدالحليم إعادة الأغنية.
كان كمال يتابع الحفل من القاهرة، ولم يستطع البقاء فى البيت، وقادته قدماه إلى مقهى فى «سيدنا الحسين» جلس فيه مع الناس، واستمع معهم إلى «حكاية شعب» التى «قامت على التدفق والشعبية والسيطرة الجماهيرية»، حسب وصف عمار الشريعى، «فى شهادته لى التى ضمنتها فى كتابى «أم كلثوم وحكام مصر» «جزيرة الورد- القاهرة».