كان راديو واحد فقط فى بلدة «أرمنت» بمحافظة قنا جنوب صعيد مصر عام 1939، كان الراديو وقتها أندر من الذهب، ولأن قرية «المراعزة» يفصلها عن أرمنت عدة أميال، فإن رغبة أى فرد منها للاستماع إلى الراديو كان يعنى قطع هذه الأميال، وهذا ما كان يفعله الطفل «عبدالباسط» ابن محمد عبدالصمد سليم داود المولود فى «المراعزة» عام 1927، وحسب تأكيد محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء» عن «كتاب اليوم - أخبار اليوم»: «كان يذهب حيث يوجد الصندوق «الراديو» مرتين كل أسبوع، مرة فى يوم الثلاثاء ومرة فى يوم الجمعة، وهذه اللحظات التى كان يقضيها بجوار الصندوق هى أسعد لحظات عمره، كان يجلس مستندا على جدار الدكان، والصندوق السحرى ينبعث من داخله صوت كأنه السحر، صوت فيه شجن وفيه قوة وفيه خشوع وفيه رهبة، وفيه دعوة إلى ملكوت الله، كان هو صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت».
 
فى عام 1940 بدأ عبدالباسط عبدالصمد يحترف قراءة القرآن، ووفقا لـ«السعدنى»: «كانت أولى لياليه فى قريته بمأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كاملة، ثم نقدوه أجره فى الصباح، وكان الأجر عشرة قروش فضة كبيرة مثل العيش المرحرح وعليها نقوش بارزة تقول إنها ضربت فى عهد السلطان، واشترى حلاوة وملبن وكراملة وفول سودانى ولب، ووضع الباقى فى حصالة، فحلمه الكبير أن يقطع تذكرة ويركب القطار إلى بلد بعيد، وفى سن الخامسة عشرة تحقق حلمه الكبير، ركب القطار القشاش من أرمنت إلى قرية مجاورة وسهر هناك حتى الصباح، وعاد معه خمسة وعشرون قرشا كاملة، وكانت هذه الليلة هى تاريخ ميلاده، ففيها ولد قارئ جديد، صوته جميل وقوى، له أسلوب فى القراءة لا يقلد فيه أحدا، ومن تلك الليلة بدأت شهرة الشيخ عبدالباسط، وانفتحت أمامه قصور العمد والأعيان وباشوات الصعيد».
 
فى عام 1950 جاء الشيخ إلى القاهرة ليزور السيدة زينب وفى ليالى المولد كان يندس فى الزحام كل ليلة مجهولاً مغموراً، يتفرج على الأضواء والألعاب والأذكار، ويخلع نعليه ويزحف إلى داخل المسجد ليستمع إلى القراء الكبار، وفى الليلة الختامية كان مقرئون عمالقة يحيون الليلة وهم: عبدالفتاح الشعشاعى ومصطفى إسماعيل وعبدالعظيم زاهر وأبوالعينين شعيشع وغيرهم، وحسب الموقع الإلكترونى لإذاعة القرآن الكريم: «بعد منتصف الليل قام أحد أقاربه الذى كان له علاقة بالمسؤولين فى المسجد بالاستئذان له ليتلو, فإذا بالمسجد ينصت لهذا الصوت الغريب والعجيب الذى أخذ يشق أركان المسجد الزينبى وآذان المستمعين لدرجة أن كل جمهور المسجد كان يصرخ بأعلى صوته: «الله أكبر، الله أكبر»، وكلما أراد أن يصدق، يطالبونه بالاستمرار».
 
انتهى من التلاوة فى هذه الليلة والفجر على الأبواب، وحسب «السعدنى»: «خرج من المسجد وعلى يديه ألف قبلة، وأكثر من عقد لإحياء الليالى، وعند ذلك قرر اعتزال الصعيد والبقاء فى القاهرة» وفى عام 1951 طلب منه الشيخ «الضبع» وهو أحد عمالقة القراءات آنذاك فى العالم الإسلامى، أن يتقدم إلى الإذاعة واجتاز اختبارها بتقدير ممتاز، وبهذه الخطوة ذاعت شهرته كل العالم الإسلامى كمقرئ جديد بلون مختلف، ويصبح حسب وصف السعدنى: «صوت عموم المسلمين» مضيفا: «طاف الكرة الأرضية شرقا وغربا، ففى إندونسيا كان المعجبون يقفون بالساعات ليستمعوا إليه، وفى المغرب قرأ للملك وحده، وفى باريس لم يجد مستمعين ولم يجد معجبين فشعر بالاختناق وهجرها بعد ثلاثة أيام إلى «كازابلانكا» بالمغرب».
 
يقدم «السعدنى» جانباً آخر من شخصيته: «لم يؤمن بالسينما ولا المسرح، ويحب القراءة، وأحسن كاتب قصة فى نظره هو عباس العقاد وطه حسين كويس أيضا، مدمن قراءة صحف، وأحسن كتّابها عنده هو محمد حسنين هيكل ثم كامل الشناوى، ولم يقرأ شعرا ولم يهتم بالشعر، وسمع أن هناك رجلا اسمه شوقى «أمير الشعراء أحمد شوقى»، ويعرف أن توفيق الحكيم هو رئيس الشعراء، وكان أحيانا يسمع الأغانى، وأحسن مطرب لديه محمد عبدالوهاب، وأحسن أغانيه: «فى الليل لما خلى» و«مرت على بيت الحبايب»، وعبدالحليم حافظ «مش بطال»، وأم كلثوم «معجزة، فلتة لن يجود الزمان بمثلها»، وكان يميل فى حياته للعزلة، ويكره الاختلاط، ويحب اللون الأخضر، وأصيب فى شبابه بمرض السكر ثم الكبد حتى رحل فى مثل هذا اليوم «30 نوفمبر 1988».