ضربتان متتاليتان، وجهتهما القاهرة للسوق «السوداء» للصرافة خلال الأيام القليلة الماضية، فما كاد صغار المضاربين يلملمون جراحهم، ويحصر كبار التجار خسائرهم بعدما تراجع سعر الدولار من أعلى مستوى تاريخي له عند 18.50 جنيه، بدأت معدلات السيولة في «السوق السوداء» خارج مصر تتراجع بشكل لافت.
ارتفعت حالة الترقب مع قرار البنك المركزي بتحرير سعر الجنيه لتتلقفه عوامل العرض والطلب، إلا أن حالة الخوف من الخسارة أو ضياع فرصة أفضل سادت جموع المصريين المغتربين، فأوقفوا تحويلاتهم إلا للضرورة القصوى، والتي تحولت معها تحويلاتهم إلى السوق الرسمي بعد غياب لأشهر طويلة بعدما أضحت الأفضل سعراً لأول مرة مقارنة مع الأسعار في السوق «السوداء».
إلى هنا تسير الأمور في نطاق غير واضح بالنسبة للكثيرين، إلا أن الفيصل يظل دائما معلقا على حجم المعروض من النقد الأجنبي، ومقدار الطلب عليه داخل «المحروسة»، والذي يرتكز في الأساس على مدى قدرة الدولة على توفير مصدر الإيراد الدائم للدولار.
ولضمان نجاح سياسة تحرير سعر الصرف يجب الاستمرار في تنمية مصادر إيراد الدولار في القاهرة، والتي يستأثر فيها العاملون بالخارج بحصة الأسد، والتي تناهز 20 مليار دولار سنويا، خصوصاً وأن الأزمة لم تعد مجرد مسؤولية معلقة في رقبة الدولة فقط، بل تخطت ذلك إلى المصريين بالخارج ليتحملوا مسؤولياتهم، ويقوموا بواجبهم الوطني في دعم المعروض من العملة الصعبة حتى تعود مستويات الأسعار إلى نطاقها الطبيعي.
عودة المغتربين إلى ركوب قطار التحويلات الرسمية لم تعد مجرد طلب تتمنى الجهات الرسمية الاستجابة له، بل أضحى حاجة ملحة ينبغي الالتزام بها من أجل المساعدة في تخفيف حدة ارتفاع معدلات التضخم التي يدفع ثمنها بالدرجة الأولى الطبقة البسيطة من المصريين، فيما لا يتواكب حجم الزيادة في فروقات سعر صرف المغتربين حال التحويل في السوق «السوداء» مع معدلات الزيادة في أسعار السلع، ما يعني أن مكاسب المغتربين (خسارة مؤجلة حتى الإنفاق)، وخسارة محققة بشكل يومي لأهلهم في مصر الذين يتقاضون رواتبهم بالجنيه.
السؤال الذي كان يطرح دائما، لماذا تراجع المصريون عن تحويل أموالهم في السوق الرسمي قبل قرار التعويم الأخير. قد ينظر البعض إلى الأمر بشكل سطحي على اعتبار أن فرق السعر الذي ناهز الضعف في السوق السوداء عن نظيرتها الرسمية هو عامل الإغراء الوحيد، إلا أن الحقيقة تظهر جلية وفقا لما ظهر من صغار تجار العملة بالخارج، والذين بدأوا يشعرون فعليا بالرعب من زيادة أسعار السلع والخدمات بالصورة التي بدأت تبدّد مكاسبهم المحققة داخلياً، إلا أن هناك 3 أسباب أخرى تتعلق بالأداء الحكومي تجاه المغتربين، تتلخص في ما يلي:
1 - التعامل مع المصريين بالخارج على أنهم «فاحشي الثراء»، إذ تخرج كل فترة تصريحات من بعض المسؤولين التنفيذيين في البنوك أو المشرعين، أو الساسة تطالب بفرض رسوم وضرائب عليهم رغم عدم وجودهم في مصر، باعتبار أنهم يعملون في الخارج ويتقاضون رواتب كبيرة، وهو أمر غير حقيقي، وهو ما يصنع حالة «نفور» بين المغترب ومتخذ القرار نظرا لعدم إلمامه بالحالة التي يعيشها مصريو الخارج.
2 - القيود على حركة الأموال: يخشى المغتربون من قرارات البنك المركزي والإجراءات التي تتخذها البنوك المصرية من وقت لآخر، بما يقيّد حريتهم في التصرف بأموالهم، في ظل عدم وجود ضمانة واضحة تتيح له حرية التصرف بأمواله بما يلبي متطلباته عند الحاجة.
3 - تفوّق «السوق السوداء» في تقديم خدماتها، إذ تتيح للمصريين في الخارج عند تحويل الأموال خاصية التحويل الآني دون رسوم تحويل، ودون سقف أقصى لحجم التحويلات، مع وجود سعر تفاوضي للمبالغ الكبيرة، ناهيك عن التوصيل إلى باب المنزل بسرعة فائقة، وعدم تأثرها بالعطل والإجازات سواء رسمية أو غير رسمية، وهو ما لا تستطيع السوق الرسمية تحقيقه.
ولكن بعد تخطي نسبة كبيرة جداً من تلك الأسباب، وبدء التعامل في سوق العملات بأريحية تحقق للمغتربين ما يسعون إليه من أرباح ناتجة عن تغيرات سعر الصرف بفارق هامشي جداً بين «السوق السوداء» و«الرسمية»، هل ينقذ المصريون في الخارج «المحروسة» بعيداً عن سياسة «سيب وأنا أسيب»، ويدعموها في أزمتها عبر تحويل الأموال من خلال السوق الرسمي حصراً؟