في كل بلد، وفي كل عصر، خصوصًا في البلاد والعصور التي "يقتل فيها الناس لأسباب سياسية" كما كان يقول ماركيز، هناك مبدعون يشاء لهم القدر أن تكون حياتهم، لا إبداعاتهم، هي الميراث الذي يتركونه، أحد أولئك المبدعين هو الشاعر المصري الراحل نجيب سرور، الذي تحل اليوم 24 أكتوبر ذكرى رحيله عن عالمنا.
سرور الذي ولد عام 1934 بقرية أجا بالدقهلية أحد الأشخاص الذين سارت حياتهم سيرة غير معتادة، ولعله لم يكن له الخيرة في مسار حياته بشكل كبير؛ فسرور الذي بدأ حياته الإبداعية بالشعر قادته نشأته في الريف، الذي كان يعاني آنذاك ألوانًا من القسوة والتجبر من السلطة والمتحكمين في الأقوات، وجد نفسه يسير في طريق حددته له نشأته، ليكتب، كما في قصيدة "الحذاء" 1956، مهاجمًا ما يتعرض له الفلاح المصري من بطش وعسف.
 
كان توجه سرور الشيوعي غير معلن، وكذلك بالضرورة انتماؤه إلى "حدتو"، وهو الأمر الذي لم يقف عائقًا أمام سفره في بعثة للاتحاد السوفيتي عام 1958 لدرسة الإخراج المسرحي، وهناك أعلن عن شيوعيته.
 
موقف الشيوعيين السوفييت، والشيوعيين العرب المهاجرين منه لم يكن واضحًا، لذلك، ولتأكيد شيوعيته، راح سرور يهاجم النظام المصري بقسوة، متهمًا إياه بالديكتاتورية والقمع والدموية، ليثبت قدمه كأد الأسماء البارزة بين الشيوعيين العرب في بلاد البلشفية.
 
وبقدر ما حصل سرور على تأييد الماركسيين، سواء السوفيت أو العرب، بقدر ما كان رد فعل الدولة المصرية، أو بالأحرى صلاح نصر، قاسيًا، لتلغى بعثته، ويعلن منبوذًا من قبل الدولة المصرية، ومخابراتها.
 
"أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان
 
إن عد فرسان الزمان
 
لكن قلبى كان دوماً قلب فارس
 
كره المنافق والجبان
 
مقدار ما عشق الحقيقة"
 
ربما تكون هذه الكلمات، التي تضمنها ديوان "لزوم ما يلزم" لنجيب سرور، هي أصدق تعبير عن حالة الشاعر المغضوب عليه، الذي يعاني حالة من الغربة بين رفاقه البلاشفة، ويفاجأ من قسوة النظام، ويحن إلى وطنه.
 
هذه الغربة قادت سرور إلى حالة من الاكتئاب، انعكست في أعمال حزينة، تبكي الوطن المفقود، ورغم ذلك لا تكف عن سب الظلم والقهر، أعمال تشاؤمية من برومثيوس الملعون، أو سيزيف المحكوم عليه بشقاء أبدي، وسير في دائرة مفرغة، ومفزعة.
 
لم يكن النظام البوليسي في مصر ليهمل عودة سرور إلى مصر، حيث لاقى ألوانًا شتى من التعذيب في سجون صلاح نصر، والتضييق خارج السجن، ليأتي تراكم هذه السنوات من التنكيل بـ"أميات نجيب سرور"، هذه القصيدة التي تحمل سبابًا فاحشًا، بأقسى الألفاظ النابية العامية في وجه النظام وأدوات القمع وأباطرة المال والفن وجلادي الأدب، هذه القصيدة الطويلة التي صارت تيمة معبرة عن سرور بين محبيه، وبخاصة من المعارضين الذين واصلوا، أو بالأحرى واصلت الأنظمة التنكيل بهم بشتى الطرق.
 
ورغم هذه الحياة، وهذه الأعمال، التي قد تكون كافية لتجعل من سرور أحد أيقونات المواجهة مع القهر السياسي، على غرار شعراء أمريكا اللاتينية في عصر الاغتيالات السياسية، الذين تلقوا الرصاص بصدورهم، وأيديهم قابضة على قصائدهم، فإن هذه الحياة سحبت الأضواء عن إنتاج أدبي مهم لسرور، كان من الممكن، لو لم تسر حياة سرور تلك السيرة، أني قدم لنا قلمًا مهمًا للغاية في مجال النقد الأدبي، والتأليف المسرحي.
 
"رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ" عمل نقدي لم يحظ بالشهرة نفسها التي حظيت بها "الأميات" رغم كونه إنتاجًا نقديًا حمل سمات ذلك الجيل، جيل الستينيات، الذي تأثر بتطور مدارس النقد، وبخاصة مع ظهور وانتشار مذهب الواقعية الاجتماعية، التي كان للأقلام السوفييتية فضل كبير في تغذيته، ليخوض سرور رحلة نقدية، لا تخل من منهج تأثري رغم ذلك، في أحد أهم الأعمال التي شهدها الأدب المصري الحديث، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسة في فوز صاحبها بالجائزة الأغلى على مستوى الأدب، نوبل.
 
وبجانب الإنتاج النقدي كان سرور يقدم إنتاجًا مسرحيًا، يراه النقاد امتدادًا لاتجاه تقديم مسرح "مصري" بما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، وأولها استلهام مادتهم من التراث المصري، وبخاصة التراث الشعبي والريفي تحديدًا، لتقديم مسرح معبر عن الهوية المصرية، على غرار اتجاه الكلاسيكيين في أوروبا لاستلهام أعمالهم من كلاسيكيات الإغريق.
 
"ياسين وبهية" أحد تلك الأعمال التي قدمها سرور، والتي استمدها من التراث الشعبي، حول بهية، مصر في شعر العامية، وياسين، المقتول يموت، والذي نتساءل دائمًا عن مقتله، "خبريني يا بهية ع اللي قتل ياسين"، ولكن سرور يعرف من قتل ياسين، ليقدم ملحمة عن الصراع الطبقي، صراع الفلاحين وأصحاب الأملاك.
 
ويتخذ نجيب سرور في "منين أجيب ناس" من القصة الشعبية الشهيرة حسن ونعيمة، أداة لاستدعاء أسطورة إيزيس وأوزيريس، ليستخدمهما معًا في استدعاء الواقع المصري، واقع بهية أو نعيمة أو إيزيس، الباحثة عن قاتل ياسين، أو حسن، أو أوزيريس، والباحثة عن المخلص، المخلص من واقع من الفروق الطبقية، والاستعباد، و"القتل لأسباب سياسية".
 
حياة تشاؤمية تعيد إلى الأذهان سيرة أبي العلاء، وهو الشاعر الذي استعاده سرور في أحد دواوينه، تؤكدها حادثة رويت من أكثر من طرف، تبين إلى أي مدى رأى سرور الحياة برؤية سوداوية، لا أمل في إضاءتها.
 
والحادثة كانت في 1974 بعد عرض فيلم "أميرة حبي أنا" للفنانة الراحلة سعاد حسني، والفنان حسين فهمي، وهو الفيلم الذي كتبه الشاعر الراحل صلاح جاهين، والذي تغني فيه سعاد حسني أغنيتها الشهيرة "الحياة بقى لونها بمبي"، التي كتبها جاهين، حيث استفزت الأغنية نجيب سرور، الذي لم يكن متفائلًا بالواقع المصري في الحقبة الساداتية، ليتجه لبيت جاهين ويناديه، ويصرخ تحت نافذته باكيًا: "بمبي يا جاهين؟"، ويقول الراوون للقصة إن جاهين دخل في نوبة اكتئاب حادة بعد تلك الواقعة، انتهت بوفاته لاحقا.