"لقد هرمنا من أجل تلك اللحظة التاريخية".. رددها بنفس يملؤها الأمل تجاه مستقبل طال انتظاره، وبوجه طغت عليه نشوة الانتصار، بعد ما عاني من سوءات الماضي مع نظام طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، حتى جاء طوفان "البوعزيزي" حاملًا معه سيف الخلاص.
23 سنة قضاها هذا الرجل المشتعل رأسه شيبًا، مع حاكم بقي رابضًا على مقاليد السلطة في تونس الخضراء طيلة تلك الفترة، يحكم قبضته من داخل قصر قرطاج الشهير، مستخدمًا سيف المعز وذهبه لأجل تعضيد امبراطوريته السلطوية، التي ترفع شعار مصلحتي "أنا وليلي وأبنائي" ولاعزاء للآخرين.
الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي المولود في عام 1936، قضى حياته أو الشطر الأكبر منها في دروب السياسة ومسالكها، بدأها بالانضمام لصفوف المقاومة الوطنية المكافحة ضد قوات الاستعمار الفرنسي، والذي كانت سببًا في إقصائه من مدرسته وإيداعه السجون، قبل أن يرحل لاحقًا إلي فرنسا.
تدرج" بن علي" داخل صفوف المؤسسة العسكرية التونسية، مداعبًا المناصب علي كافة أنواعها، وهو مامنحه مزيدا من الثقل السياسي، ومكنه من تكوين إمبراطورية متشابكة من النفوذ والسلطة والثروة، دفعته لإتخاذ قرار الإطاحة بأستاذه الحبييب بو رقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية، من علي أرضية صلبة، في عمل ظاهره الرحمة وباطنه شبه إنقلاب، حيث برر إقدامه علي تلك الخطوة إلي عدم قدرة " بو رقيبة" علي القيام بأعباء منصبه بعدما أصبح طاعنًا في السن بلغ من العمر أرذله.
"بن علي" المنتمي لأحد الأسر الفقيرة نسيبًا، استبشر به العديد من مواطني الشعب التونسي بعد استيلائه على عرش الحكم، مستشهدين بماضيه الممزوج بالكفاح ضد عدوين لدودين هما المستعمر والفقر، معتقدين أنهما كفيلين بجعله قربيا من ملامسة أنيين البسطاء، لكن بريق الكرسي كان له رأي مخالف لهوي الكثيرين.
حاول "بن علي" استمالة الجميع في بداية فترة حكمه عن طريق الإقتراب من صفوف المعارضين قبل المؤيدين، لكنها لم تكن سوي خطوات من قبيل المراوغة السياسة من أجل تعضيد أركان حكمه، لكنه سرعان ما استعان بسيط الجلاد، لردع كل من تسول له نفسه الإقتراب من زحزحة عرشه سواء بالكلام عبر الصحف أو الأفعال عن طريق التظاهر.
الرئيس التونسي الهارب المشهور بميله الفطري نحو كل ما هو أوربي لدرجة جعلت البعض يصفه بأنه ملكي أكثر من الملك نفسه، حاول صبغ الدولة التونسية بالصبغة الأوربية الفرنسية، حيث اتخذ العديد من الخطوات تجاه علمانية الدولة، تمثلت في منع التونسيات من إرتداء النقاب والحجاب، بإعتبارهما لباسًا ينضح بالعنصرية، بالإضافة إلي تضيقه المستفز علي الشعائر الإسلامية، حيث جعل أداء فريضة الصلاة مرتبطًا بالحصول علي بطاقة ممغنطة معتمدة أمنيًا، تشمل بداخلها مسجدًا محدد يرتاده المصلي ولا يسمح له بإقامة الصلاة فيما عداه، وهو ما كانت أحد الأسباب في تصاعد حدة الصراع بينه وبين حركة النهضة التونسية ذات التوجه الإسلامي.
علي الجانب الآخر من فساد واستبداد "بن علي"، كانت زوجته ليلي الطرابلسي من ذوات اليد الطولي داخل أركان حكمه، حيث أوحلت هي وعائلتها في بحر الفساد لدرجة تزكم معها الأنوف، بعدما غلبه الإعتقاد، بأنه فوق أى قانون و بعيدة كل البعد عن المساءلة والحساب.
خابت القبضة الأمنية التي فرضها نظام بن علي طيلة فترة حكمه في أن تمهد له البقاء حاكمًا لتونس الخضراء، طالما بقيت الروح تنبض في جسده، حيث بدأ الشعب التونسي في زلزلة الأرض من تحت قدميه في السنوات الأخيرة من فترة حكمه، بدأت مع قيام الصحافة التونسية بالإحتجاب عن الظهور تنديدًا بالممارسات القمعية التي ترتكبها السلطات، قبل أن تلحق بها قوي عديدة من النخب المدنية التونسية.
لكن كعادة الثورات تأتي دائما من مستصغرر الأحداث، فعقب قيام قوات الأمن التونسي بصفع ومصادرة عربة البائع المتجول "محمد البو عزيزي"، أقدم أيقونة الربيع العربي علي حرق نفسه، ليصبح الحادث بمثابة إندلاع النار في الهشيم، حيث خرج الشعب التونسي علي آخره في مظاهرات حاشدة، تطالب بإسقاط النظام، وهو مارضخ له "بن علي"، حيث حزم حقابئه هاربًا بإتجاه المملكة العربية السعودية، قبل أن يلقي كلمة الوداع علي آذان الشعب التونسي قائلا لهم "الآن فهمتكم".
زين العابدين بن علي والذي يبدأ عامه الثمانين يجلس الآن في منفاه الاختياري يقضي مرحلة من الخريف، التي لا يعرف موعدًا للخروج منها، بعد ضاع ملكه يحدث نفسه قائلا "بيدي لا بيد البوعزيزي".