وقف الشاب المصري محمد عمر حمودة تحت سماء المدينة التركية إسطنبول يحدق في الباب الموصد لقنصلية إسرائيل التي طالما كانت عدوة لبلاده. رأسه لا يتوقف عن التفكير، هل يقدم حقًا على هذه الخطوة المجنونة؟ هل يطرق باب الشيطان طالبًا التحالف معه ضد بلاده؟ يعلم أن شخصًا يدعى شاكر فاخوري سبقه وانتهى به الأمر محكومًا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. لكن «حمودة» آمن أنه تعلم من أخطاء «فاخوري» وأن التشابه الوحيد بينهما لن يكن سوى شذوذهما الجنسي، رغم أن حتى في هذا التشابه وقع اختلاف، فـ«فاخوري» كان شاذًا إيجابيًا أما «حمودة» فعشق لعب دور المرأة على أسرة الرجال.
القصة وكما رواها الكاتب فريد الفالوجي، المتخصص في رصد العمليات المخابراتية، في موقع «ديوان العرب»، بدأت بظهور علامات الشذوذ على «حمودة» منذ الصغر وانتشار حكاويه وفضائحه، وكان والده دائمًا ما يضربه في محاولة لتقويمه، إلا أن الطفل الصغير، الذي وعد والده مرارًا أن يعدل من سلوكه، كان دائمًا يعود إلى أفعاله الشاذة.
ومرت السنوات، وفشل المراهق «حمودة» في تحقيق مجموعًا كبيرًا في الثانوية العامة، التي تخرج منها عام 1971، وطلب للتجنيد الإجباري، وهو ما سعد به كثيرًا، إلا أن شذوذه انفضح في الكشف الطبي للمؤسسة العسكرية، ليحصل على إعفاء من تأدية الخدمة العسكرية مصحوبًا برد قاسي: «الجيش يطلب رجالًا فقط».
عاش المراهق أيام عصيبة بعد إعفائه من الجيش، وأمسك عليه والده المصروف، وأصبحت حياته بائسة، وطالما تمنى وأن يذهب إلى مجتمع متفتح يتقبله بشذوذه، ووجد دافعه ومحفزه في تقارير عديدة قرأها عن الشذوذ في الجيش الإسرائيلي ومجتمعات أوروبا، كما وقعت صوب عينيه قصة الجاسوس شاكر فاخوري، الذي ذهب بقدميه إلى السفارة الإسرائيلية في قبرص وعرض عليهم خدماته، وقد أعجب «حمودة» بالفكرة، فيما رأى أن خطأ «فاخوري» هو غباءه في التصرف مع الضابط المصري الذي حاول تجنيده، ما أكد «حمودة» لنفسه أنه لن يكرره حال اختار أن يسير على نفس النهج، وبقى هذا الاختيار حبيسًا في عقله منتظرًا أمر التنفيذ.
سريعًا أنهى «حمودة» إجراءات سفره إلى تركيا، وتحديدًا مدينة إسطنبول، عاصمة السياحة في بلاد العثمانيين، وهناك شعر بالتحرر من العار الذي ظل يلاحقه في مصر، وأقام عدة علاقات عابرة مع شباب في حدائق اسطنبول، إلا أن حظه العاثر أوقعه في لص سرق كل أمواله، ليكن الحل البديل استدعاء الفكرة الشيطانية التي وضعها في ذهنه، ووضعها حيز التنفيذ الفوري، فذهب إلى موظف الاستقبال في البنسيون الذي سكن فيه سائلا عن مبنى السفارة الإسرائيلية التي تقبع في العاصمة أنقرة وليس القنصلية في اسطنبول.
«أنا لا اريد العودة إلى مصر.. لقد كرهت مصر وكل ما فيها وكثيرًا ما فكرت في البحث عن دولة أخرى أعيش بها وهداني تفكيري إليكم.. أنا أحلم بالحياة في إسرائيل حيث الحرية بلا حدود وفرص العمل متوفرة والعائد المادي كبير جداً قياساً بكل دول العرب»، بتلك الكلمات برر «حمودة» لضابط الموساد بالقنصلية الإسرائيلية رغبته في التعاون معهم. وبعد ساعات من الحديث، جلب ضابط الموساد بضعة أوراق للشاب المصري ليكتب بها قصة حياته كاملة، فيما تم ترتيب حجرة له في فندق فخم نزل بها على حساب القنصلية الإسرائيلية، حتى تأكدوا تمامًا من صحة أقواله وعدم انتماءه لوطنه، ومنها تم تكليفه بأول عملية له بلبنان.
مهمة الشاب المصري في لبنان اقتصرت على الانضمام إلى إحدى المنظمات الفدائية الفلسطينية وجمع أكبر قدر ممكن من معلومات عن الفدائيين، وحققت العملية نجاحًا باهرًا، وعاد «حمودة» إلى اسطنبول بالمعلومات المنشودة، لتكن في انتظاره مهمة جديدة، لكن هذه المرة في قلب العاصمة المصرية القاهرة.
لم يرق الأمر كثيرًا لـ«حمودة» العودة إلى مصر بعدما هرب منها من قبل، إلا أن قوانين الجاسوسية التي لا تعرف كلمة «لا» كانت كفيلة بإجباره على تنفيذ التعليمات، وكانت مهمته هذه المرة هي التعرف على تفاصيل ما يحدث داخل أسوار الجامعات والحركات الطلابية وتحفيز الطلاب على الثورة وعلى النظام القائم حينها، برئاسة الرئيس أنور السادات، حيث كانت المنشورات الحماسية حينها تلقى قبولًا واسعًا.
وعن طريق أخيه عبدالحميد، الذي كان يسكن في المدينة الجامعية لجامعة عين شمس، بجوار وزارة الحربية آنذاك، دخل «حمودة» العالم الجامعي والحياة الطلابية، حيث تعرف على زملاء شقيقه الذين انجذبوا لقصصه عن اسطنبول، والفتيات التي تعرف عليهن هناك، واللاتي كن من صنع خياله، واعتاد «حمودة» الاستماع إلى الطلاب والحركة الطلابية السياسية داخل أسوار الجامعة، وحاول أن يخلق لنفسه صورة البطل أمام زملاء أخيه من الطلاب، فاخترع قصصًا بطولية عن مغامرات سياسية وهمية، وجهر بمعاداته للنظام القائم، وأخذه الحماس في صنع شخصيته البطولية إلى قمة الغباء عندما اعترف للشباب بأنه كُلف من قبل المخابرات الإسرائيلية بحرق القنصلية المصرية في بني غازي، في أعقاب المظاهرات المعادية لمصر التي وقعت في ليبيا في تلك الفترة، كما كلف «حمودة» الطلاب بكتابة تقارير مفصلة عن الحركة الطلابية داخل الجامعة لكي يقرأها «على مهل» بعد ذلك.
غباء «حمودة» قابله فطنة من أحد الطلاب الثائرين، فرغم حنقهم على النظام الحاكم إلا أن حبهم لمصر كان أكبر وأقوى، وبمجرد ما ارتابوا في أمر «حمودة» بعد روايته لقصة ليبيا وطلبه تقارير عن الحركة الطلابية، سارعوا بإبلاغ أمن الدولة.
وأعدت مباحث أمن الدولة بمساعدة بعض الطلاب كمينًا للجاسوس الخائن فدعاه البعض إلى جلسة سمر بحجرتهم في المدينة الجامعية، وسجلت بمعرفة أمن الدولة، وجلس الجاسوس يستعرض مجددًا أعماله البطولية الوهمية وتأخذه الحماسة مجددًا فيعترف صراحة بعلاقته بالقنصلية الإسرائيلية في تركيا وعلاقته بالموساد، فيما عرض على الطلاب مساعدته بتقارير عن النشاطات الطلابية المعادية لإسرائيل مقابل خدمات «مادية ومعنوية».
وفي فجر 19 مايو 1973 توجهت القوة المكلفة باعتقاله إلى المدينة الجامعية بجامعة عين شمس، واقتادته للتحقيق، وعندما تبين للخائن انكشاف أمره للسطات المصرية، أخذ يضرب رأسه بقبضته ثم لطم خديه وبتفتيش أوراقه عثر على قائمة بالتكاليف التي جاء لأجلها وتضم «12» تكليفاً بخط يده بجمع معلومات عن الحركة الطلابية في مصر، والحصول على نسخ من المنشورات التي توزع داخل الجامعات، والعناصر التي تسيطر على الطلبة، ومعلومات عن الوضع الاقتصادي والسياسي، وأماكن الصواريخ على القناة، ورغبة الشعب المصري في الحل السلمي أو العكس، ومعلومات عن الطلبة الفلسطينيين في مصر، وعن الوحدة الاندماجية، وهنا فقط تذكر نصيحة الضابط المسؤول عنه بتمزيق ورقة التكليفات، لكن الجاسوس نسى ذلك، كما عثر معه أيضاً على فاتورة الفندق في استنبول ومكتوب عليها «دفعت من قبل القنصلية الإسرائيلية».
ويختتم «الفالوجي» القصة مشيرًا إلى أن الجاسوس اعترف بكل شيء أمام محكمة أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار مصطفى عبدالوهاب خليل، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأثبتت التحقيقات أنه لم ينقل أي معلومات من مصر، وأن المعلومات التي ضبطت معه لا تشكل خطورة.