تبدو في الأفق عدة مؤشرات تؤكد أن جهاز أمن الدولة بدأ يستفيق من الضربة التي وجهتها له ثورة 25 يناير، في محاولة لترتيب أوراقه واستعادة نفوذه من جديد، وربما العودة لصياغة ملامح الفترة المقبلة، خاصة في ظل الإصرار على إبقاء هياكله، وعدم المساس بقياداته حتى الآن.
وحسب مصادر أمنية، طلبت عدم الكشف عن هويتها، فإن تسريب عدد من الفيديوهات مؤخرا، أبرزها تأكيدات مدير أمن البحيرة اللواء مجدي أبو قمر برفقة عدد من مباحث أمن الدولة بأنهم "أسيادنا"، وأن الضرب بـ"الجزمة" سيكون مصير الشعب، كان متعمدا، مؤكدة أن هناك رسالة يحاول الجهاز توصيلها مفادها أنه باق بنفس العقلية، وبنفس السياسات لكن في ثوب آخر.
مقطع الفيديو الذي انتشر على موقع "يوتيوب" أظهر أبو قمر وبجواره العميد محمد بدراوي، مفتش مباحث مديرية أمن البحيرة، واللواء طارق هيكل، مفتش مباحث أمن الدولة، ويتحدث فيه أبو قمر، قائلاً: "نحن أسيادهم واللي يمد إيده على سيده لازم ينضرب بالجزمة"، ورد عليه اللواء طارق هيكل قائلاً: "نقطع إيده"، هذا فضلا عن توجيه السباب والشتائم للمصريين، وهو الأمر الذي لم يجابه بأي موقف واضح من حكومة أحمد شفيق سوى بنقل أبوقمر لديوان عام الوزارة، مما يعني أن ثمة توافق ما على رسالة إرهاب للشعب جرى توجيهها عبر أبوقمر في محاولة لإستعادة ثقة الجهاز الأمني المفقودة.
الرسالة الثانية جاءت من واقع البلاغ الذي تقدم به المحامي والناشط الحقوقي أمير سالم للنائب العام، والذي يفيد بتعرض الشاب محمد محمد 24 سنة من بلطيم و13 آخرين للاختطاف والتعذيب والصعق بالكهرباء من قبل جهاز أمن الدولة بلاظوغلي الملاصق لمكتب الوزير, إثر خروجهم من ميدان التحرير لشراء طعام في الثامن من فبراير، وأطلق سراحهم الثلاثاء 15 فبراير أي بعد الثورة بـ 3 أيام، مما يؤكد أن سياسة وزارة الداخلية لم تتغير في عهد الوزير الجديد محمود وجدي.
الرسالة الثالثة والتي لم تلفت إنتباه الكثيرين، هو ما شهده اجتماع شعبة المستوردين بالغرفة التجارية بالقاهرة، مؤخرا حيث أصر ممثل أمن الدولة على حضور الاجتماع، وهو ما كان متبعاً خلال الفترات الماضية، لولا ثورة بعض المشاركين ضد مجلس إدارة الغرفة لتركه هذا الشخص يحضر الاجتماعات وهو ما أجبره على الرحيل، تاركا رسالة ذات مغزى بأن جهاز أمن الدولة لن يترك مواقعه بسهولة ولن يتخلى عن نفوذه.
غرفة إنعاش
خطة إنعاش جهاز أمن الدولة تبدأ بمحاولة استعادة الثقة والهيبة من جديد والتي تلاشت إثر نجاح ثورة الغضب، وهو الأمر الذي بدا يلوح من خلال نشر متعمد لمقاطع فيديو تؤكد سطوة وقوة الجهاز الذي يكمل في 2013 قرنا من الزمان منذ تم إنشاؤه في ظل الاحتلال الانجليزي لمصر عام 1913، حيث يعد أقدم جهاز من نوعه في الشرق الأوسط.
يعزز محاولة استعادة الثقة إصرار وزير الداخلية الجديد اللواء محمود وجدي بدعم من حكومة أحمد شفيق على الإبقاء على الجهاز، والمحافظة على هياكله ومقراته، وتوفير الحماية لقياداته دون تحويل أي منهم حتى الآن للتحقيق أو المحاكمة، أو إقالة المئات منهم ممن ارتكبوا جرائم تعذيب ضد الشعب المصري.
وبحسب الخطة المطروحة تحاول قيادات الجهاز ترتيب صفوفها، وترميم المقار التي تعرضت للحرق، واستعادة الملفات المفقودة، وصياغة خطة إعادة انتشار وتغلغل جديدة لعملاء الجهاز في كافة أنظمة التيارات السياسية والجماعات الإسلامية والحركات الاحتجاجية، على أن يتم التركيز خلال الفترة المقبلة على بحث كيفية التصدي لمستجدات ما بعد 25 يناير، وبلورة ملامح الفترة المقبلة، ورصد ميزانيات ضخمة لتطوير أداء إدارة "مكافحة نشاط الإنترنت" بهدف رصد شباب "الفيس بوك"، ومتابعة نشاطاتهم، وإنشاء جروبات موالية لأمن الدولة تستهدف إثارة البلبلة والتحكم في دفة الآراء المطروحة وتوجيهها نحو أهداف وأجندات بعينها.
ورم سرطاني
الجهاز يضم ضمن تركيبته المعقدة التي تشبه "الخلايا السرطانية" مكاتب رئيسية منفصلة تشمل وحدة جمع المعلومات، ومكتب مكافحة النشاط الإخواني، ومكافحة النشاط السلفي، ومكتب مكافحة الطوائف الذي يختص بنشاط الجماعات الصوفية والبهائيين والنوبيين، ومكتب مكافحة النشاط الشيعي، بالإضافة إلى مكاتب متخصصة في متابعة الأحزاب والنقابات والجامعات والحركات العمالية والنوادي الرياضية والاجتماعية، ومكتب متخصص في متابعة أحوال الكنائس المصرية، وقسم مكافحة النشاط الطلابي بالجامعات، والمجتمع المدني، ومكتب النشاط الديني وهو مخصص لمتابعة أئمة الأوقاف وشيوخ المساجد وكتاتيب تحفيظ القرآن، هذا فضلا عن شبكة عنقودية من مكاتب الجهاز المنتشرة في كافة محافظات ومدن الجمهورية، وجيش من المخبرين والمرشدين السريين من الرجال والنساء في مختلف المؤسسات الحكومية والخاصة.
إزاء ذلك يمكن القول إن الجهاز يعد أحد أقوى مراكز القوى المناهضة للثورة، وأن حجم الملفات التي كان يديرها طيلة عقود تجعل من الصعب السيطرة عليه أو تفكيكه، كما أن تركيبته الضخمة وحجم الامتيازات والرواتب الكبيرة التي يحصل عليها جميع من يعمل داخل هذا الجهاز تجعل من قياداته جبهة مناوئة للثورة، خاصة في ظل مخاوف فعلية تؤرق جهات سيادية في الدولة من أى أضرار قد تنجم عن عملية الحل مثل نشر حالة فلتان أمنى وعمليات بلطجة، أو بيع أسرار الدولة لأطراف خارجية، أو نشر ما لديهم من مستندات ووثائق قد تعصف بقيادات بارزة ما زالت في مواقعها.
ويبدو أن الحديث عن إعادة هيكلة الجهاز وإحداث تغييرات جذرية في قياداته، وسحب العديد من الملفات من بين يديه محاولة على الأقل لتهدئة الثوار، حتى يتم ترتيب البيت من الداخل واستعادة الثقة المفقودة بما يحقق نجاحا كاملا لعملية الإنعاش وينتقل بالجهاز لمرحلة جديدة في ثوب آخر.