مخطئ من يتصور أن ثورة شباب التحرير نجحت في تحقيق أهدافها، وواهم من يعتقد أن نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك رحل ، وأن مصر تخلصت من موروثات حقبة استمرت في تاريخها لنحو 60 عاما، احتل مبارك على طولها صدارة المشهد السياسي ابتداء من كونه طيار عادي بالقوات الجوية، ثم مديرا للكلية الجوية، فقائدا للقوات الجوية خلال حرب أكتوبر، ثم نائبا لرئيس الجمهورية الراحل أنور السادات، فرئيسا للجمهورية في اعقاب وفاة السادات في 1981 وحتى إعلان السيد عمر سليمان تخلي مبارك عن الحكم مساء الجمعة الخالد 11 فبراير.
نعم نجحت الثورة جزئيا في إسقاط حكم الرئيس مبارك أو اسقاط نظامه السياسي، وبعض من رموزه البارزة من أمثال أحمد عز وجمال مبارك، وصفوت الشريف، وحبيب العادلي، وأحمد نظيف، وآخرين،.. بالفعل الشعب نجح في اسقاط نظام مبارك السياسي بشكل جزئي حتى الآن، فقطعا لن يحكم مبارك مصر مجددا، ولا أحد من عائلته على أغلب الظن، والأقرب للتحقق أن نرى رئيسا منتخبا للبلاد بشكل ديمقراطي نزيه، وكذلك برلمان حر معبر عن قطاعات المجتمع، وفاعل في أداء دوره التشريعي.
فالثورة بلا شك حققت على الصعيد السياسي نجاحات وقفزات رهيبة وغير مسبوقة، وأشك أن تتكرر بنفس السيناريو لقرون قادمة، وأثق أنها ستنجح في تحقيق كافة أهدفها التي نادت بها من ايجاد دستور يتماشى مع المتغيرات ويتيح قدر فعال لممارسة الديمقراطية وضمان الحريات العامة، و وضع إطار تشريعي يضمن اجراء انتخابات حرة نزيهة سواء كانت برلمانية أو رئاسية، أو حتى على مستوى المحليات والنوادي، والجامعات، مع تحقيق المفهوم الحقيقي للمواطنة، وغيرها من الإصلاحات الدستورية والتشريعية التي تصب في لإطار السياسي لأهداف الثورة.
ويقيني باكتمال عقد تغيير النظام السياسي، نابع من ثقتي الكاملة في صدق نوايا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وما لمسته أنا وكثيرين غيري من تصميم المجلس على إقامة دولة مدنية، وتحقيق أكبر قدر من مطالب الجماهير خلال الفترة الانتقالية التي حدها المجلس ب 6 شهور.. برغم ذلك النجاح، وتلك الثقة في مواصلة النجاح، يؤلمني أن أقول إن نظام مبارك لم يرحل بعدـ بل مازال يحيا بيننا، وفي أغلب ممارستنا اليومية، نعم سقط نظام مبارك السياسي، ولكن لم يسقط النظام الاجتماعي والنظام القيمي، والموروثات التي ذرعها نظام مبارك في المجتمع على مدار نحو 30 عاما من حكمه، فمازال المرتشون يفتحون أدراجهم، ومازالت الفوضى والعشوائية هي الحاكم في تصرفات الشارع المصري.
مازال الانتهازيون يمارسون هواياتهم في استغلال المواقف، ومازالت المخدرات تنهش في عقول الشباب المصري، ومازالت الألفاظ البذيئة تملأ شوارعنا، والتحرش اللفظي والجسدي لم يرحل بعد، ومازلنا نحتكم للأقوى، ومازال علماؤنا يقفون في أواخر الصفوف، ومازال هناك من يبكون على رحيل مبارك ويتمنون عودته.
رحل مبارك وعز ونظيف والعادلي، وجرانة، وغالي، والشريف.. ولكن بقي هناك ألف مبارك يطمعون في الوصول للحكم وتحقيق أطماعهم، وهناك ألف عز من رجال الأعمال ينتظرون انتهاز الفرصة للمتاجرة بثروات الوطن لتحقيق أعلى ربحية، ومازال هناك ألف عادلي من رجال الشرطة يتحينون الوقت المناسب للقفز إلى الصدارة حتى ولو كان على حساب حياة أبريا من هذا الشعب.. ولكن كي نكون منصفين مازال هناك أكثر من ألف ألف شريف يبحثون عن فرصة لبذل الغالي والنفيس من أجل رفعة الوطن دون انتظار لشكر أو مقابل، ولنا في شهداء ثورة التحرير المثل والقدوة .
يا شباب الثورة، حققنا القدر اليسير، أو الهدف الأسهل وأثق أن باقي مطالبنا السياسية، ستحقق في القريب العاجل، إما ارتضاء وإما بثورة أخرى أقوى وأعنف؛ ولكن بقي القدر الأكبر والمهمة الأصعب، وهي القضاء على نظام مبارك بمفهومه الأعم والأشمل، تغيير النظام بمفهومه الواسع، فلن يمكننا القول إن ثورتنا نجحت بحق، إلا إذا تخلصنا من موروثات الحكم البائد، عندما نحترم جميعا الشرعية، عندما يضع كل منا نصب عينية نموذج للمدينة الفاضلة ونحيا بداخلة، مجتمع يكره الرشوة ويحاربها، مجتمع يقدس العمل ويحترم النظام العام، مواطنون يقدسون قيمة الوقت ويحافظون على مواعيدهم، مجتمع يحترم كل منا الآخر، شباب لا يتلفظون بالبذيء من القول، ويتعامل مع كل فتاة في الشارع على أنها شقيقته واجب عليه حمايتها واحترامها، شعب واع لمعنى المواطنة والدولة المدنية.
لن تنجح الثورة طالما مازلنا لا نعرف لسلة المهملات سبيلا، وطالما لا نفهم معنى اشارات المرور، وطالما لا نفرق بين رصيف المشاة وبحر الطريق، وطالما مازال منا من يعق والديه ولا يصل رحمه، وطالما مازال فينا من لا يرحم ضعيفنا ويوقر كبيرنا.. لن تنجح الثورة، مازال فينل وبيننا من لا يحسن معاملة جاره، ومن لا تفهم كيف تربي أولادها، وطالما كان فينا من يلوث ماء النهر.
فيا شباب الثورة، ويا كل أب وكل أم تعالوا نكمل ثورتنا، ونجعلها ثورة لتغيير كل سيء وقبيح وخاطئ، ثورة نابعة من معتقد، يغذيها يقين بحتمية التغيير، والأمل في مدينة فاضلة.. علموا أبناءكم وبناتكم أن يكونوا ثوارا حقيقيين، يقدسون دينهم مسلمين كانوا أم مسيحيين أو غير ذلك، يحبون وطنهم، يعشقون الفضيلة، يمقطون البغض والمشاحنة، يلزمون الحق ويهوون الخير والجمال، يقرضون الشعر، ويتغنون بحب الوطن، والحفاظ على مقدسات الثورة.
تعالوا نجعلها ثورة على الظلم، وعلى الفساد، نجلها ثورة ضد ذواتنا، نخلصها من كل قبيح سواء كان فعلا أو قولا، أو سلوكا، أو معتقدا، نطهر ذواتنا بقدر ما نقدر من خطاياها تجاه الوطن والآخرين، نجاهد أنفسنا كي نكون مواطنين صالحين، آباء قادرين على قيادة الدفة، امهات قادرات على تنشئة جيل قادر على تحمل مسئولية الغد، شباب محب لوطنه جاد في حياته، مصرا على خدمة نفسه ووطنه، علماء لا يكلون أو يملون من أجل بناء نهضة علمية للوطن، عمال مخلصون في عملهم، زراع مكدون في زرعهم وحصدهم.. تعالوا جميعا نحاول أن نكون مواطنين بحق.. وأجزم أنه لو غيرنا ثقافتنا وبدأنا المحاولة حينها يمكننا أن نقول أن ثورتنا نجحت بحق، وأن دماء شهداءنا لم تسل هباء.. وأن نظام مبارك سقط بالفعل.