نزار قباني ، من منا لم يسمع نزار فتسري بجسده نشوة الحب ، ووجع البعد ، من منا لم يداهمه شعور الوحدة ، فتذوب وحدته مع أنغام كلماته ، ومن منا طال انتظاره شهوراً واعوام في أن يجد من يرسل إليه قصائده ، كُنت أنا احدى ضحاياه .
تجذبني رجولته الطاغية وترانيم صوته ، لا استطيع أن اخلد إلى النوم إلا وأنا اتوضأ بكلمات ٍمنه ،رجل عشقته لا أمرأة بل ألف امرأة , كم اذوب أنا في رحيق كلماته , تطربني , كم اتراقص كل ليلة ارتدي فيها ثوب الحب على رسائل منه تصلني كل يوم , هو ايضاً يشبه نزار القباني ،وسامته ، رجولته , بعض النساء لاتحتاج إلا لرجل حنون وبعضهم من ينتظرون من يغدق عليهم بالمال ، أما أنا تكفيني رسالة منه .
استيقظ في الصباح على واحدة وفي المساء على أخرى , إنه" فارس" التقيت به صدفةً في حفلة أقامتها صديقتي "ماريا " بإحدى الفنادق احتفالاً برأس السنة , لم ادرك احساساً مثل هذا من قبل نظراته الحادة كلما اتجهت يمنة ويسرة ، احاول أن اختلس النظر إليه من بعيد من خلف زجاج كأسي الشفاف ، يقف جانباً تتوسطه جميلات يزينون خصرهم بأحزمة ذات الوان طيف ٍ.
اشعر بوحدة وأنا على طاولتي ، ارى أيديهم تستكين بحضن بعضٍ ، يراقبني فأتحاشى نظراته ، استفزني ، حقاً كما يقولون امرأة واحدة لاتكفي , كيف له أن يترك كل هؤلاء ويحاول البحث عن أخرى , أعرف إنني قادرة على جذب كل الرجال ، اشعر أن نظراته تفقدني ثقتي بذاتي ، كأنه يتفحص ملامح الجمال على وجهي ، اكره هذه الأصناف التي لا ترضيني , أعلم أنني لست بالسهولة التي أذهب فيها إلى عالم الحب .
حاولت أن انشغل بما يحدث حولي ، تناولت كوباً من الليمون البارد وأنا استمتع بصوت الموسيقي الهادئة , افكار تطاردني احاول إخفاء وحدتي ، قاطعني آخر طلب الرقص معي ، فأعتذرت ، أشعر بضجر ، عدتُ اتابع الراقصين في صمت ، يحذبني هذا الهدوء ، اعترف حقاً إنني اراقبه ايضاً ، كان واثقاً من ذاته رقصاته تقول ذلك ، حركات قدمه ، ساقه الذي لم يهبط من على خصرها ، اناقته التي دائماً ماتكون حديث الفتيات في ليالي السمر الطويلة .
ساد الظلام المكان إنها الثانية عشر مساءً كل من في الحفل يرتدون ثيابهم التنكرية , لكنني فضلت الذهاب برداء أحمر برونزي مرصع ببعض من الجواهر الصغيرة واكتفيت بوضع فصوص صغيرة على صدري وقد اعطت الرداء بريقاً لامعاً مع فصوص صغيرة ايضاً على خصلات شعري الأسود المنسدل خلف ظهري , ثوانٍ وعاد النور ثانية ، كانت شفاهم تلاصق بعضها , احمرت وجنتي ثم ابتسمت ابتسامة خجل , شعرت ببرودة وقشعريرة قوية تسري بجسدي , انتهى الحفل والسعادة تملؤهم تتخبط كؤوس الفودكا ببعضها وراحوا يستكملون رقصاتهم المثيرة ذات تناسق ، خطواتهم هادئة , الوقت قد داهمني ، لابد من الرحيل ، قبلت "ماريا" بلطف ،ثم اخذتني من ذراعي وهمست بأذني:
ــ اليوم كنتِ أجمل من في الحفل .
اكتفيت بإبتسامة تعبر عن سعادتي وأنا اخفي بداخلي حزناً عميق ،لا اعلم سببه ربما وحدتي رغم وجودها بجانبي.
بادرت مسرعة بتوديعها كى اعود إلى عملي غداً , تركتها تستكمل الحفل , احبها كثيراً , دائماً ماتشعر بحالتي ومااريد أن اقوله دون أن اتحدث إليها .
أتذكر أنني تعرفت على "ماريا" في المطار كنت اجلس على المقعد في انتظار الطائرة التي تنقلني إلى بيروت ، تحدثنا طويلاً ، قالت لي أنها وحيدة ليس لديها أشقاء كذلك تسكن بمفردها في القاهرة لكنها في زيارة إلى اقاربها في الخارج ، شعرت أن كلماتها وحديثها عن حياتها بالملجأ مثيرة كثيراً ، بعد قليل راحت هذه المشاعر ، اخبرتني أنها تمتلك شركة صغيرة لصناعة الملابس تعمل بها كمصممة ، تقول أن تصميم الملابس يلهيها كثيراً عن ذكرياتها المؤلمة .
بعدت عنها بخطوات كثيرة حتى اقتربت من باب الفندق الخارجي ,هناك تستقل سيارتي الصغيرة سمعت صوتاً من الخلف يناديني ,لم أبالِ، اوقفني فجأة , أصابني الذهول ،إنه هو " فارس "وراح يقول لي بصوتٍ هادئ رزين واثق من ذاته :
ــ يجذبني هذا الاحمر .
لم يعطيني فرصة كى اجاوبه أو حتى اصده ثم تابع حديثه وسألني :
ــ لأول مرة اراكي , هل أنتي صديقة احد ؟
نظرت إليه دون جواب وعاد يكرر :
ــ من أنتي ؟
كم امقت هذا السؤال الذي يستفزني ، فقولت له :
ــ لا تسألني من أنا .
ــ لماذا ؟
تذكرت وقتها هؤلاء النساء وهو يتراقص بين واحدة وأخرى فخذلت ضعفي واستجمعت قوتي وقلت له بثقة :
ــ تود الحديث معي لتعرف من أنا ؟
ــ بالطبع .
ــ إذن اهتم بعقلك قبل مظهرك .
تركته ورحلت , شعرت بأسئلة تدور بعقلي هل أنا احرجته ؟ نعم قد احرجته , لا ، لم احرجه , عُدت إلى منزلي في ساعة متأخرة , لم اجد من ينتظرني هكذا هى الغرفة كما هى ، لاجديد , حتى عقارب الساعة قد توقفت من الوحدة ، كل شئ يصرخ منها.