fiogf49gjkf0d
يكفى أن تنظر لتاريخ المصريين بقليل من التعمق والفلسفة لتدرك أهمية الدين عند هذا الشعب العظيم

الشعب المصرى شعب متدين بطبعه – بكل دياناته – ويميل فى تدينه إلى التشدد والالتزام والتصوّف، ولهذا نجد الدين فى فترات كثيرة من تاريخ مصر يُستخدم – للأسف - لخدمة السياسة ولصالح الحكام.

سأروى لحضراتكم قصة رواها لى والدى عندما كنت صغيرا فى أحد نقاشاتنا عن الدين وعلاقته بالسياسة.. قال والدى إن ثورة «عرابى» فشلت بسبب براعة «الخديوى توفيق» فى استخدام الدين، واستقطاب أفئدة المصريين لصالحه.

عندما ثار ضباط الجيش المصرى لقائدهم «أحمد عرابى» قبل أن تتحول الثورة إلى ثورة شعبية لم يستطع «الخديوى توفيق» الوقوف أمام غضب ضباطه، واضطر للإفراج عن «عرابى» وزملائه الذين سُجنوا من قبل «عثمان باشا رفقى» وزير الحربية آنذاك، والمعروف بظلمه للضباط المصريين، والانحياز للأتراك والشراكسة، وتوليتهم المناصب دونا عن مستحقيها من المصريين. وقام «الخديوى» بعزل «عثمان باشا رفقى» وتولية «محمود سامى البارودى» وزيرا للحربية، واضطر «الخديوى» أيضا لتعيين «عرابى» ناظرا للجهادية، وهو منصب رفيع جدا آنذاك.

ومع التدخل الأجنبى السافر فى سياسة مصر بدأ «عرابى» وزملاؤه يشعرون بهشاشة حكم «الخديوى» وإهماله مصالح مصر والمصريين، فقامت الثورة العرابية التى دعمها الشعب الذى وعى بفطرته الموقف، رغم ضآلة الآلة الإعلامية وقتها، لكن الشعب كان واعيا بالقدر الكافى الذى يسمح له بفرز الأحداث، واستبيان الجيد من الرث، فانحاز بفطرته للجانب العُرابى الثائر.. واشترك فى دعم الثورة مشايخ الأزهر الشريف، وعلى رأسهم بالطبع الإمام «محمد عبده».

هنا بدأ «الخديوى توفيق» فى التفكير فى أى وسيلة يستميل بها تعاطف الشعب لينقلب على «عرابى»، خاصة أن الزعيم «أحمد عرابى» كان خطيبا مفوّها وقائدا عسكريا محنكا، وقد أعاد للضباط المصريين رتبهم، وأسس لمبدأ العدالة والمساواة بين قادة الجيش من المصريين والأتراك، وبهذا استحوذ على حب وولاء الضباط وأسر قلوب الشعب المصرى.
إذن كيف يتم تشويه صورة «عرابى» فى أعين الشعب؟
وكيف يتم تجميل وتزيين صورة «الخديوى»؟
أدرك «الخديوى توفيق» بثقافته وقراءته للتاريخ أن الشعب المصرى شعب عاطفى للغاية خاصة فيما يخص الدين، فأطلق من خلال رجاله شائعة غريبة جدا، مفادها أن «الخديوى توفيق» من الأشراف، أى أنه من نسل النبى صلى الله عليه وسلم، وحَبَك شائعته بقصة تتعلق بزواج جده «محمد على باشا» من سيدة يعود نسبها الشريف إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما ذهب لشبه الجزيرة العربية لوأد الحركة الوهابية سنة 1812م، وأن زواجه هذا أنجب له سلالة شريفة تمتد إلى «الخديوى توفيق».
قصة لا تصدقها ابنتى صاحبة الأعوام الستة..
الغريب أن الشعب المصرى المتدين والمتصوف لأقصى درجة صدَّق هذه الشائعة، وبدأ فى التعاطف مع «الخديوى توفيق» – الحاكم الشرعى آنذاك – واعتبروه الحاكم الشريف المتدين، وانصرفوا عن «عرابى» وثورته ومبادئه ضد الظلم والتحيز والتفرقة العنصرية، وتعاطفوا مع «الخديوى» الخائن الذى مهّد للإنجليز الطرق الخلفية للهجوم على جيش «عرابى»، حتى إن الإنجليز عندما هجموا على جيش «عرابى» المتمركز بالتل الكبير أجهزوا عليه فى نصف ساعة فقط، وقبضوا على «عرابى»، وكان لم يرتدِ حذاءه بعد، بحسب روايته شخصيا.
لقد أردت أن أسرد هذه القصة على حضراتكم ليفقه أولو الألباب كيف استخدم الحاكمُ عاطفةَ الشعب المصرى العظيم وتدينَه وتصوّفَه وميلَه الشديد لمرضاة الله فى مناحٍ سياسية تخدم أغراضه الخاصة وتحمى عرشه وملكه.
لقد أمرنا الله أن نتدبر فى التاريخ، وفى آثار من سبقونا لنجد فى حكاياتهم وسيرتهم موعظة وعبرة نعتبر نحن بها، ونسير على هديها.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.