نقلا عن موقع العربية 
تعتبر شخصية جحا من الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ العربي والإسلامي، إذ يتراوح ما بين الحقيقة والأسطورة والخيال، في حين يصعب التأكيد بشكل دامغ على مصدر هذه الشخصية، من أين بدأت بالضبط ولمن تنسب، حيث تتعدد المرويات حولها وتتناسل الحكايات.
لكن جحا ترك في المخيلة الشعبية صورة جلية للفيلسوف البسيط الذي يتراوح كلامه الممتزج بممارسته في الحياة، مع صور متناقضة ما بين الحكمة والبلاهة، حتى يكاد المرء يحار من أين يبدأ الذكاء الفطري الإنساني وأين ينتهي ليكون حد السذاجة.
كما أن المنهج الساخر في حكايات جحا العديدة، يكشف عن بنية الحكيم الذي يهزم صرامة الواقع وصلفه بالانتباه، الذي بدلاً من أن ينسجم مع هذا المألوف، يعمل على تهشيمه وتعريته بالسخرية منه.
الرمزيات والدلالات
يذهب الأديب المصري عباس محمود العقاد في كتابه "جحا الضاحك والمضحك" قائلًا عن نوادره، بأنها يستحيل أن تصدر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تُروى عنها.
بالتالي فإن شخصية جحا هي نتاج عقل جمعي على مدى عصور من فترة بواكير الإسلام إلى الزمن الراهن، كما أنها أيضاً أنتجت بأكثر من صورة في البيئات العربية والفارسية والتركية، بحيث كان لكل بيئة نموذجها الجحوي. 
وفي كل الأحوال وكما يرى الدكتور محمد رجب النجار في كتابه "جحا العربي"، فإن هذه الشخصية تعبر عن الناقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولكن بأسلوب ساخر، ذلك "الذي يهوّن على الناس ما يعانون".
ويعود السبب في انتشار شخصية جحا والاشتغال المتواتر عليها بحسب النجار إلى "أن الوجدان الجمعي للشعوب، يبادر فينتخب رمزاً فنياً ساخراً، يعكس من خلاله آراءهم في السلطتين العسكرية والسياسية".
وهاتان السلطتان ظلتا المؤثرتين في الحياة العربية والمجتمعات العربية والإسلامية على مدار عقود طويلة، بحيث إن حكايات الصراع والهيمنة تدور حولهما.
وهذا يعني أن الرمز الحجوي هو اختزال تعبيري لصورة الاحتجاج في شكل النكتة الموظفة سياسياً عبر تاريخ القمع والتسلط والخوف من الحاكم.
فجحا بحسب النجار نفسه "استطاع الجمع بين الذكاء اللمّاح والتهكّم، فكان لسان حال الشعب العربي من الحاكم، وذلك من خلال نوادره التي كانت تجسيداً حياً وفعّالاً لما شاهده الناس عبر العصور من ظلم واستبداد، ولكن بشكل ساخر".
البحث عن جحا
تلفت المصادر التراثية إلى أن الجاحظ هو أول من أشار في مؤلفاته إلى جحا أو ذكره، عندما أورد في كتاب "القول في البغال" نوادر بطلها جحا دون أن يترجم له، أو يحدد هويته بوضوح.
وهذا قد يدل على أن هذه الشخصية كانت معروفة في زمانها على الأقل على مستوى المخيال الجمعي، إن لم تكن واقعية.
وتعود أقدم القصص المنسوبة إلى جحا في التراث العربي إلى القرن الأول الهجري، أي السابع الميلادي، بالتحديد إلى رجل يدعى دُجين بن ثابت الفزاري، وقد كان يلقب بجحا وكان ظريفاً، لكن يقال إن الكثير من القصص المنسوبة حوله هي مكذوبة في واقع الأمر.
وقد أورد ذكره العلامة الحافظ ابن عساكر وقال إنه عاش أكثر من 100 سنة، وذكر أنه من التابعين، وكانت أمه تعمل خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، وحذر لهذا "فلا ينبغي لأحد أن يسخر به".
كما أن السيوطي والذهبي والحافظ ابن الجوزي، أتوا على ذكر جحا في كتبهم، وأورد ابن الجوزي عن رجل يدعى جحا ويكنى أبا الغصن يرجح أنه دجين الفزاري نفسه، وروى عنه ما يدل على الفطنة والذكاء "إلا أن الغالب عليه التغفيل"، وهناك من يرى أن الحكايات المضادة كان مصدرها المعادين لفطنة جحا وحكمته من زمرة السلطة.
وهذا يدل على أن شخصية جحا تم توظيفها منذ البدايات على مستويين، الأول كان يدفعها لصالح الفطنة والحكمة وحلّ القضايا الاجتماعية بأسلوب ساخر ينم عن الذكاء، والمستوى الثاني يدل على مصالح السلطة التي قامت على نقد جحا وتحويله إلى مثال للغباء والبلاهة.
وبين هاتين الصورتين، كان جحا يصعد نجمه في المستوى التخييلي والأسطوري ليصبح شخصية معقدة من حيث البنى التركيبية، بحيث يمكن تقليبه وفق كافة المناظير التي اكتسب عبرها بعده العميق والنادر، ما حافظ عليه إلى اليوم، إذ لا تكاد ثمة شخصية أكثر محافظة على دورها الاجتماعي لدى الشعوب المسلمة أكثر منها.
حول جحا الأول
تشير المصادر إلى أن أبا الغصن دجين الفزاري، ولد في النصف الثاني من القرن الأول الهجري حوالي سنة 60 هجرية، وقد قضى شطر حياته في الكوفة وتوفي بها عام 160 هجرية أيام خلافة أبي جعفر المنصور.
وقد وصف أبو الغصن جحا بحسب الإمام الذهبي بأنه كان من العقّال، وقال عنه نقلاً عن عباد بن صهيب "ما رأيت أعقل منه"، ويروى أنه كان يمزح في أيام شبابه، وعندما كبر وشاخ أصبح مصدراً للحكمة والرسوخ العميق.
ولعل هذا قد يكشف أيضاً التدرج في هذه الشخصية بحسب مراحل عمرها، ما جعل طرائق جحا تُبنى على طبقات مختلفة من الوعي الجمالي والأخلاقي والمعرفي، يوازي تدرج الحكمة ومساراتها لدى الإنسان مع نمو الذات وتقدم السن.
وتشير روايات أخرى إلى أن دجين كان فقيهاً وبالتالي فكثير من القصص قد انتحلت عليه جراء الخصومات السياسية في تلك الأيام، ويورد النسائي قولاً: "لعل التجريح قد جاء مما نسب إليه من نوادر وفكاهات لا تليق براوي حديث"، وثمة من رأى أن الرجل وقع فريسة المكايدات بين أهل الكوفة والبصرة في تلك العصور.
من جانب آخر، فقد نسب إليه البعض كرامات وخوارق، وهو ما ظل أيضا مثار خلاف ونفاه علماء كجلال الدين السيوطي الذي عاش في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، حيث قام بتأليف كتاب سماه "إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا". وقصته أن السيوطي ألّفه بمثابة رد على سؤال ورده مستفسراً عنه، وقام في الكتاب بجمع القصص المنسوبة إليه وبيّن بعض المواقف.
وأورد السيوطي في كتابه هذا عن جحا: "كانت أمّه خادمة لأم أنس بن مالك، وكان الغالب عليه صفاء السريرة، فلا ينبغي لأحد أن يسْخر به إذا سَمِع ما يضاف إليه من الحكايات المضحكة، بل يَسأل الله أن ينفعه ببركاته. وغالب ما يُذكر عنه من الحكايات المضحكة لا أصل له. وقد ذكره غير واحد، ونسبوا له كرامات وعلوماً جمّة".
جحا التركي
الشخصية الثانية التي تدور حولها الكثير من قصص وحكايات جحا هي التركي نصر الدين خُوجة المعروف بجُحا الأتراك أو ما يسميه البعض بجحا الرومي، وكان معلماً وفقيهاً وقاضياً. وقد ولد في قرية صغيرة تدعى خورتو عام 605 هجرية وتولى بها القضاء، وتوفي عام 683هـ.
ويرد عنه أنه كان من الزهّاد، وكان يعمل في فلاحة الأرض ويحتطب بنفسه رغم مكانته كعالم وقاضٍ، وكان كريماً شكّلت داره محطة للعابرين من الغرباء وأهل الدار من الفلاحين.