تصعد دول وترتقي اقتصادياً فتبلغ الآفاق، وتضيع أخرى. وبين الارتقاء والضياع ثمة أوراق نجحت قيادة حكيمة في استغلالها على الوجه المطلوب، في حين أخفقت أخرى.

ومن بين أدواتنا في مصر، جزء غال وعزيز وقوة ضاربة تعطي ولا تأخذ، وهي العمالة المصرية بالخارج، ذلك القطاع العريض الذي يزيد على 10 ملايين شخص، كلهم منتج، ويقدم لبلاده الكثير، لكن ما زال لديه شعور مرير بأنه مجرد كيان ينظر إليه كمصدر جلب أموال، يتم استنزافها، ثم يُطلب منه أن يعود إلى البلد التي يعمل فيها لإعادة شحن رصيده.

إن المصري العامل بالخارج لديه شعور يقيني بأنه يحمل الأموال من مكان عمله إلى بلاده لمجرد الاستنزاف والاستهلاك، ثم تُسدّ أمامه أي نافذة من نوافذ الاستثمار بين دهاليز الروتين والبروقراطية البغيضة.
فلنتحدث وباختصار عن هموم المصريين بالخارج، ونظراً لاتساع الدائرة فإنني سأبدأ بالحديث عن مشكلة الاستثمار والادخار للمصريين العاملين بالخارج.

من الضروري أن نعلم أن المغترب لنحو 10 سنوات تبدأ خبرته وعلاقته بالسوق المصري تتضاءل، ويبدأ في فقدان الحس التجاري، وفهم مجريات الأمور وقواعد اللعبة والمخاطر إذا غاب عن السوق طيلة هذه الفترة، وحينما يريد المصري المغترب العودة إلى مصر يبدأ يقلّب الفكرة في رأسه، ماذا أعمل، وكيف أبدأ مشروعاً أعيش منه داخل مصر، فيقع في حيرة من أمره، فإما يحمل أمواله في حقيبة، ويذهب فيلقيها بين أيادي أحد التجار في مصر، وغالب الأمر يكون هذا التاجر متعثراً، ويريد أن يحل أزماته على حساب هذا المسكين، وتبدأ رحلة ضياع الأموال، ومحاولة استردادها بين صالات وقاعات المحاكم، أو أن هذا المغترب يكون أكثر حنكة، فيذهب إلى واضعي اليد على الأراضي الزراعية، فيرى الزروع الخضراء، فتأخذ بعقله ويبدأ الحلم يراوده، فيقتطع 10 أفدنة أو يقل أو يزيد، ثم تمر الأيام والأشجار، تزدهر ثمارها، وإذ بالدولة تقول إنه مخالف، ثم تهدم وتجرف وتضيع الأموال بين أسنان الجرافات. وهنا يعود المغترب بحسرة لإعادة تعبئة وشحن رصيده وسط عناء الغربة ومتاعبها، وهنا لا يجد المغترب مناصاً من الاستثمار العقاري، فيشتري الشقق في المدن الجديدة كي يعيد بيعها بعد فترة بأرباح عقارية.

وحينما يجد المغترب نفسه أن الأبواب موصدة أمامه حتى لشراء العقار في بلده، ويخيم عليه اليأس، يجد أن الاستثمار وشراء العقارات في بلاد مثل بريطانيا، وجورجيا، والإمارات، وكثير من دول أوروبا الشرقية أكثر أمانا فيلجأ إليها.

لم نر أن الدولة قامت بطرح فكرة مشروعات استثمارية جدية ورصينة تجمع المغتربين، وتحافظ على أموالهم التي يثرى من خلالها السماسرة بالداخل، وكلما تقدم المغترب للمشروعات الجديدة يجد كبار المستثمرين يهيمنون عليها، وهي مجرد فكرة أو يقع المغترب ضحية في دهاليز الروتين التي لا يقوى عليها إلا المحترفون.

إن مجرد فكرة طرح أرض بيت الوطن بالدولار الأميركي جعلت العاملين بالخارج يقفون طوابير عليها وتحويل مئات ملايين الدولارات، فما بالك لو طرحت مشروعات استثمارية تحت رعاية الدولة، فبدلا من النظر إلى مستثمر أجنبي يأتي بعد مساومات ومفاوضات وتنازلات، لماذا لا نهتم بالمصري المغترب، والأرقام تؤكد أن الدولة بوسعها الاستحواذ على أكثر من 100 مليار دولار استثمارات من أبنائها في الخارج، ولكن لو أحسنت اجتذابهم.