أثارت موافقة المهندس عاطف عبد الحميد محافظ القاهرة على تغيير اسم شارع سليم الأول بالزيتون حالة من الجدل بعدما أعلن المحافظ أن تغيير الاسم جاء بناء على ما تقدم به الدكتور محمد صبرى الدالى أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، بأنه لا يصح إطلاق اسم أول مستعمر لمصر، الذى أفقدها استقلالها وحولها لمجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية إلى جانب قيامه بقتل آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها وأعدم آخر سلطان مملوكى (طومان باى) وحل الجيش المصرى، وهنا بدأت التساؤلات حول تاريخ سليم الأول وهل دخوله إلى مصر كان فتحًا أم غزوًا؟ وما إذا كانت هناك أسماء أخرى تحتاج إلى مراجعة.

الدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان قال لـ"التحرير" إن تغيير اسم شارع سليم الأول بالزيتون قرار جيد، ولا بد من مراجعة أسماء كافة الشوارع، موضحا أن سليم الأول حوّل مصر من دولة مستقلة إلى ولاية تابعة وظلت هكذا من 1512 حتى دخلها الاحتلال البريطانى عام 1882، وظلت مصر تحت الحماية البريطانية من 1914 وحتى عام 1936، موضحا أنه قتل العديد من المصريين حتى إنه كان يقتل من كانوا يحتمون بالمساجد، لافتا إلى أنه لا بد من مراجعة أسماء الشوارع التى أُطلقت منذ عهود قديمة والبحث عن تاريخ الأشخاص جيدا.

 

الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، ومقرر لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، قال لـ"التحرير" إنه طالب منذ سنوات المسئولين بضرورة مراجعة أسماء الشوارع فى مصر كلها، لأن هناك أسماء لا تليق بهذه الشوارع وهناك شخصيات قتلت المصريين وأذلتهم واستعمرتهم، وهناك أسماء شوارع لا معنى لها ولا تليق، ولكن مؤسسات الدولة لم تستجب لذلك، لافتا إلى أن اللجنة المسئولة عن وضع أسماء الشوارع تتكون من مجموعة من الموظفين ليس لديهم خلفية تاريخية، وليس لديهم معرفة بأسماء الشهداء على مر التاريخ، مطالبا بعدم اللعب بأسماء الشوارع لأغراض سياسية، وأنه لا بد من وضع معايير محددة وثابتة، ومشاركة أساتذة التاريخ والتراث فى لجنة وضع أسماء الشوارع. وأوضح شقرة أن المثير فى إطلاق اسم سليم الأول على أحد شوارع الزيتون أن الشعب المصرى أعلن غضبه على الحكم العثمانى وثار على سليم الأول بعد المجازر التى ارتكبها فى حق المصريين، وترحيله 5000 مصرى من الصناع إلى تركيا بالقوة لنقل الحضارة إلى هناك وتأخر مصر فى العديد من الصناعات، وكان بين الحين والآخر يرفع المصرى كفه إلى السماء ويقول "يارب يا متجلى أهلك العثمانيين"، ومن المدهش أيضا أن الشعب المصرى الذى أحب طومان باى واعتبره بطلا شعبيا لمقاومته الغزو العثمانى وحزن عليه عندما تم شنقه على باب زويلة، يطلق اسم طومان باى على شارع ويطلق اسم سليم الأول على الشارع الموازى له، أى خلد اسم الشانق والمشنوق، مشيرا إلى أن هذه مهزلة كبرى، مؤكدا ضرورة تشكيل لجنة كبيرة تقوم بمراجعة أسماء العاصمة وضبطها وتغيير ما يلزم تغييره ثم تشكيل لجنة أخرى لكل محافظة لتنقية أسماء الشوارع من الأسماء التى وضعت خطأ. جدير بالذكر أن المؤرخ المصرى محمد بن إياس دون فى كتابه الشهير "بدائع الزهور فى وقائع الزهور" وقائع دخول القوات العثمانية مصر بقيادة السلطان سليم الأول واصطدامها أكثر من مرة بمقاومة المماليك والمصريين بقيادة السلطان المملوكى طومان باى، وتعد شهادة ابن إياس من أهم ما كتب فى هذا الشأن نظرا لمعاصرته تلك الأحداث الخطيرة وتبعاتها.

 

ابن إياس أكد أنه فى الثالث من محرم 923 هـ، شق سليم الأول القاهرة من باب النصر بموكب عظيم وصولًا إلى بولاق حيث أقام معسكره، ويصفه ابن إياس قائلا: "ذرى اللون، حليق الذقن، وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، فى ظهره حَنية، عنده خفة ورهج، كثير التلفت إذا ركب الفرس، له من العمر نحو أربعين سنة أو دون ذلك، وليس له نظام يُعرَف مثل الملوك السالفة، غير أنه سيئ الخلق سفّاك للدماء شديد الغضب لا يراجَع فى قول".

 

ويذكر المؤرخ فى كتابه قول سليم حين كان فى معسكره قبل دخول القاهرة: «غدًا أدخل مصر فأحرق بيوتها وألعب بالسيف فى أهلها». وأضاف ابن إياس أنه فى الخامس من محرم، بعد صلاة العشاء، باغت طومان باى بقواته معسكر سليم، وكان مع طومان باى العوام يرمون العثمانيين بالحجارة.

فانسحب العثمانيون من مساحات واسعة، وسيطر المماليك على القاهرة جزئيًا وصاروا «يكبسون الحارات فى طلب العثمانية»، ونادى طومان باى أن من قتل عثمانيًا فله ثيابه وسلاحه على أن يحضر رأسه للمعسكر. ثم كر العثمانيون على المماليك فطردوهم من الجزيرة الوسطى بالنيل ومن بولاق، وشنوا هجمة انتقامية على إحدى الزوايا فى منطقة الناصرية، وأوقعوا بمن بها من العامة مذبحة مروعة.

 

وقال ابن إياس أن طومان باى حاول أن يتحصن بقواته فى بعض الجوامع الكبيرة، ولكن رجاله كانوا ينسحبون خوفًا من مداهمة الجند العثمانى لهم. وبالفعل داهم العثمانيون المساجد وسيطروا على منطقة مصر العتيقة واقتحموا ضريح السيدة نفيسة وداسوا قبرها ونهبوا ما به، ثم توجهوا لمسجد المؤيد واعتلى قناصتهم مئذنته وفتحوا منها الرصاص على الأهالى لمنعهم من اقتحام باب زويلة لمساعدة طومان باى ورجاله، حتى صعد هؤلاء إلى المئذنة وقتلوا من بها من قناصة.

 

وقال ابن إياس إنه خلال تلك الواقعة عاد الدعاء لطومان باى سلطان المماليك يرتفع من على المنابر القاهرية، ولكن سرعان ما تسبب تخاذل جنوده عنه فى انهزامه أمام العثمانيين مجددًا ليضطر إلى الانسحاب من القاهرة التى تملكها سليم الأول مرة ثانية بعد ثلاثة أيام دامية.

 

واندفع جنود الجيش العثمانى يعيثون فى القاهرة ويحرقون المساجد التى كان المماليك يتحصنون بها ويقتلون من يقابلون من الأهالى حتى عدد ابن إياس من قتلوا فى تلك الواقعة بنحو عشرة آلاف. ثم داهموا الجامع الأزهر ومسجد الحاكم بأمر الله وجامع أحمد بن طولون وعدد من المساجد والمزارات يفتشون فيها عن المماليك، وتكررت مشاهد كبس الحارات والبيوت وترويع الأهالى وقتلهم ظلمًا.

واكد ابن إياس أن من يؤسَر، كان يؤخَذ لمعسكر سليم حيث يتم قطع رأسه وإلقاء جثته فى النيل. ويسهب ابن إياس فى سرد تلك المذابح المروعة ثم يشبهها بواقعة غزو الملك البابلى نبوخذ نصر لمصر فى العصور القديمة، وباجتياح هولاكو بغداد سابقًا.

 

وأخيرًا، يعلن السلطان سليم الأول الأمان وإيقاف القتال، وإن لم يتوقف -بطبيعة الحال- اعتداء جنوده على العوام وسرقتهم و«تشليح ثيابهم» و«سرقة عمائمهم» فى الطريق.

 

وأوضح ابن إياس أنه بينما كان السلطان العثمانى ينظم شئون ولايته الجديدة وصلت الأخبار بأن طومان باى قد توجه إلى الصعيد، وكان سليم العثمانى قد نادى بالأمان للأمراء المماليك إن سلموا أنفسهم، فتوجه له نحو 54 منهم فجمعهم ووبخهم لمقاومته وأغلظ لهم وبصق فى وجوههم ثم أمر بحبسهم فى القلعة.

 

وأشار ابن إياس إلى أنه فى هذا الوقت وصلت لمعسكر سليم مراسلة من طومان باى يطلب منه الأمان. فأعد السلطان سفارة من بعض القضاة المصريين السابقين لإرسالها إليه بإجابة طلبه. وكانت هذه على ما يبدو مناورة من طومان باى الذى كان يراسل بعض رجاله السابقين ويحرضهم على الانضمام له.

 

وفى نفس الوقت، عاد يراسل سليم الأول ويعرض عليه أن يصالحه فيعود طومان باى للحكم لكن تحت سلطة العثمانيين كنائب عنهم، أو يخرجوا إليه فى الجيزة فيواجهونه فى معركة فاصلة يقضى فيها الله لمن يشاء، وختم رسالته بتأكيده أنه لا يعرض ذلك خوفًا من القتال ولا خشية على نفسه ولكن «الصلح أصلح إلى صون دماء المسلمين»، وكانت الأحداث المتعاقبة قد تسببت فى مجاعة فى القاهرة وشاع أن طومان باى يمنع سفن الغلال من التوجه إلى القاهرة من الصعيد حيث يختبئ، فمال سليم لإجابة مبادرته وأرسل إليه السفارة المعدة سالفة الذكر.

 

وأشار ابن إياس إلى أنه سرعان ما وصلت أنباء مهاجمة بعض العربان والجند المماليك لتلك السفارة وقتلهم بعض رجالها. فحمّل العثمانى مسئولية ذلك على طومان باى وسحب موافقته على الأمان. وبدا واضحًا أن تلك المراسلات لم تكن بالفعل سوى مناورة من طومان باى لإعطاء نفسه وقتًا ينظم فيه صفه.

 

ففى الثامن والعشرين من صفر، بلغت العثمانيين أنباء وصول طليعة قوات طومان باى إلى الجيزة.

 

فاشتعل غضب سليم وبادر إلى إعدام الأمراء المماليك المحبوسين بالقلعة وألقى جثثهم بالشوارع حتى اضطررت زوجات بعضهم لرشوة الجلادين لإعطائهن جثث أزواجهن لدفنها.

 

وقال ابن إياس إنه فى العاشر من ربيع الأول بلغت قوات كل من سليم وطومان باى الجيزة لتندلع المعركة الأخيرة التى كانت الغلبة فى أولها للمماليك ولكنهم انهاروا أمام ضربات العثمانيين الذين أمطروا الجند المماليك بوابل من رصاص بنادقهم، فكانت الهزيمة وفرار طومان باى إلى البحيرة.

 

وشق العثمانيون القاهرة بموكب النصر وفى مقدمته رؤوس القتلى من جيش طومان باى من مماليك وعربان.

 

وأضاف ابن اياس أن طومان باى فر إلى البحيرة حيث لجأ لصديقه الشيخ حسن بن مرعى -من عربان البحيرة- الذى أقسم له سبع مرات على المصحف أنه لا يسلمه لعدوه، وكان طومان باى قد أنقذه يومًا من حبس السلطان السابق قنصوة الغورى، فتوقع أن يذكرها الشيخ له.

 

ولكن ابن مرعى سرعان ما غدر بضيفه وأبلغ العثمانيين عنه، فأرسلوا قوة قبضته وحملته للسلطان سليم الذى أبقاه فى أسره لمدة سبعة عشر يومًا. وكان يشاع أنه ينفيه إلى مكة، بل وشاع أنه قد يجعله نائبًا عنه على مصر.

 

وقال ابن إياس إن أيًا من هذا لم يتحقق، فبعد انقضاء المدة المذكورة أخرجه الجند من محبسه وساروا به إلى باب زويلة «وهو لا يدرى ما يصنع به».

 

وبقى يمشى وهو يلقى السلام على الناس الذين احتشدوا بأمر العثمانيين، حتى بلغ الباب فرأى مشنقة منصوبة فأدرك مصيره، فالتفت للناس وطلب منهم أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأها معهم وقال للجلاد: «اعمل شغلك». وشنقوه بعد أن انقطع حبل مشنقته مرتين.

 

ويختم ابن إياس وصفه المؤثر لهذا المشهد بقوله: «فلما شنق وطلعت روحه صرخ عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف». ثم راح يعدد محاسن السلطان المملوكى الأخير الذى كان فى بدايات أربعينيات عمره ولم يشنق من قبل سلطان غيره على باب زويلة.