عندما لاح الفجر، بإحدى ليالي شهر نوفمبر المُنصرم؛ دق هاتف زوجة أحمد الشاعر -أحد عمال شركة "بن لادن" السعودية- يخبرها أنه أمامه بضع ساعات ليصعد على متن طائرة بمطار الرياض عائدة إلى مصر؛ دون توضيح أسباب العودة المُفاجئة. ارتبكت الزوجة، أسئلة عدة طرأت على ذهنها، لاسيما أن عقد زوجها مع الشركة لم ينته بعد، لكن أحدًا لم يُجب على أيّ من تلك الأسئلة، ليخمد إحساسًا القلق والحيرة الذين ألمّ بها.

بوصول "الشاعر"، إلى منزله في مدينة المنصورة، فجّر في وجه زوجته سبب العودة المُباغت "الشركة استغنت عني!"، وذلك ضمن مئات من عمال مصريين رُحلّوا إلى القاهرة، حتى فرصته بالاستمرار داخل المملكة، لم تًصبح سانحة، لأن الشركة لم تمنحه حق "نقل الكفالة"؛ واكتفت الشركة بإبلاغهم برسالة مكونة من كلمات قليلة "عودوا إلى بلادكم.. الله معكم".

بلغ عدد العمال المصريين في السعودية نحو مليوني عامل من إجمالي (5 ملايين) في الخارج، وذلك حتى نهاية 2016، لتنخفض العمالة المصرية في الخارج خاصة السعودية بحلول الربع الأخير من العام المُنصرم، بحسب شعبة إلحاق العمالة بالخارج التابعة للغرفة التجارية.

قبل ستة أعوام، قَدَم "الشاعر"، إلى العاصمة السعودية الرياض، للعمل داخل "بن لادن" كعامل براتب مُجزٍ يكفي احتياجاته والتزاماته الأسرية، حتى توقف فجأة دون سابق إنذار قبل خمسة أشهر؛ تلك المدة التي لم يتلقَ فيها مستحقاته المالية من الشركة؛ لما تعانيه من أزمة مالية ضاغطة "الشركة معتمدة على العقود الحكومية، وإنفاق الحكومة وقف؛ فبالتالي المشروعات وقفت، ومبقاش فيه سيولة لدفع أجورنا".

رغم ازدياد الأوضاع سوءًا داخل "بن لادن" أصرّ الرجل الثلاثيني على الاستمرار؛ أملًا في انفراج الحال "اضطريت أصبر كل الشهور اللي فاتت، وأرضى بمرتبي الإضافي بس"، إلا أن ثمرة صبره هذا كانت حصوله على الشهور المتأخرة فقط "وقالولي الله معك". لم تكن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الشركة سبب رئيسي في استغناءها عن العمالة المصرية، وإنما كان لقانون "السعودة" الذي أُقر مؤخرًا "الشركة بقى مفروض عليها تعين وتوظف عمالة سعودية مش مصرية.. فضحوا بينا".

كانت المملكة، أُقرت قانون "السعودة" مؤخرًا، الذي بموجبه سيتعين على الشركات الكبرى؛ خاصة في قطاع التشييد والبناء التي لديها بين 500 وقرابة 3 آلاف موظف، زيادة نسبة الموظفين السعوديين إلى 100%، وذلك في خطوة من الحكومة السعودية لتقليل نسب البطالة لديها والتي بلغت نحو12.7%- بحسب الهيئة العامة للإحصاء.

مخاوف عدة من المستقبل يخفيها عامل شركة "بن لادن" السابق عن زوجته التي توقفت عن الإلحاح عليها للبحث عن فرصة في أي دولة أخرى، ذلك الاقتراح الذي نجح في تحقيقه المهندس أحمد صبري، الذي يتأهب للسفر إلى الإمارات للعمل في إحدى شركات الهندسة هناك، وذلك عقب استبعاده من عمله بالسعودية.

لسنوات ظل يعمل "صبري" داخل مؤسسة "علي عبيد القحطاني" السعودية، دون أن يؤرقه شيئًا، إذ كانت جميع الأمور على ما يرام حتى حلول عام 2015؛ حيث تبدلت الأحوال، وبدأت الأزمات المالية تنهال على المؤسسة؛ لسحب بعض المستثمرين أموالهم من مشروعات عدة كانت على وشك الانتهاء، الأمر الذي أوقعها في شرك التخبط "وده طبعًا أثر على رواتب موظفين المؤسسة".

انقطع راتب المهندس المصري لأشهر، حتى أبلغته المؤسسة بقرارها الذي نزل عليه كالصاعقة "قالوا الفلوس اللي متأخرة هتاخدوها بس هترجعوا بلادكم"، ليعود إلى مصر بعد أن باتت السعودية محظورة عليه لمدة خمس سنوات، الأمر الذي جعله يقبل بعمل داخل الإمارات ربما بنصف راتبه الذي كان يتقاضيه في السعودية "كانت عندي التزامات مالية.. مدارس ولادي، ومصاريف البيت.. مكنش ينفع أقعد في مصر".

للسبب ذاته، لازال محمد الحفني الذي يعمل محاسبًا في إحدى الشركات المتخصصة في تسويق العقارات قابعًا في مدينة جدة؛ حيث لم يُستبعد من عمله بعد؛ رغم عدم تقاضيه راتبه منذ سبعة أشهر بالتمام "الشركة على وشك الإفلاس، وبالتالي أنا مش ضامن هاخد فلوسي المتأخرة ولا لأ".

عامان فقط مدة عمل "الحفني" في تلك الشركة التي وصلت مديونتها إلى 250مليون ريال، مما يعمق من قناعته بأن وضعه داخل الشركة بات محسومًا "أنا عارف أن الشركة كدا خلاص.. بس لو مشيت مش هاخد فلوسي"، ذلك الأمر الذي يجعله مستمرًا حتى الآن في العمل دون مقابل "وكمان مش مسموح ليا اشتغل عمل إضافي.. دا كان من شروط الشغل معاهم".

كانت للظروف التي يعانيها المحاسب المصري في عمله، أن تجعله يعمل عددًا محدودًا من الساعات، ليبقى العدد الأكبر من ساعات اليوم الأخرى يلاحق اشباحًا تراوده عما عساه يخبأ له القدر، فما يكون منه سوى أن يتوجه إلى صديقه عبد العزيز صلاح الذي يعمل محاسبًا بأحد المستوصفات الطبية، ليجلسا سويًا، يتذكرا أيام الدراسة تعلو ضحكاتهما، لكن سرعان ما ينتقل حديثهما عن أوضاعهما في تلك البلد، وظروف عملهما المتخبطة.

على عكس الحفني قًبًل صلاح بنصف راتب فقط في مقابل السماح له بعمل إضافي في المساء "نص مرتبي والعمل الإضافي يدوب بيكفوا التزاماتي.. ومابعرفش أحوش أي حاجة"، خاصة عقب زواجه مطلع العام المُنصرم، حيث ازدادت التزاماته للمالية، وهو الأمر ذاته الي أجبر صديقه الحفني على التخلي عن فكرة الارتباط والزواج في هذا التوقيت "كنت مخطط أخطب وأتجوز السنة دي، لكن بالوضع الحالي مش هينفع طبعًا؛ لأن المستقبل قدامي مبقاش واضح زي الأول".

كان للظروف الطارئة على عمل محاسب المستوصف الطبي، أن تفسد عليه خططه، إذ كان في حسبانه أن يأتي بزوجه معه إلى السعودية "بجانب المرتب اللي قل.. أنا كمان بقي مفروض عليا رسوم بدفعها بعيد عن الشغل، ولو عاوز أجيب مراتي هدفع لها رسوم، ودا طبعًا خارج مقدرتي"، الأمر الذي جعله لم يقض مع زوجته سوى ثلاثة أشهر فقط من يوم الزفاف " والله انا نفسي ما اتغربش عن أهلي ومراتي.. لكن في مصر مش هلاقي دخل".

وفي مُقتبل يوليو الماضي، طبقت الرياض قانون "المقابل المالي"، المُقسم إلى مراحل، بدأت مرحلته الأول في تطبيق الرسوم على المرافقين والمرافقات للعمالة الوافدة، وذلك بواقع 100 ريال كرسم شهري للفرد الواحد، على أن ترتفع هذه الرسوم إلى 200 ريال بدءا من 1 يوليو 2018، وتزداد إلى 300 ريال شهريا في 2019، في حين تصل إلى 400 ريال شهريا في2020.

وفي ظل تفاقم الأعباء وشُح الزاد داخل مصر، يتفق الأربعة على اختلاف ظروفهم حول صعوبة العودة إلى وطنهم أو الاستقرار به، الأمر الذي حدا بـ"الحفني والشاعر" بالبحث عن فرصة عمل جديدة داخل أي دولة أوروبية، فيما قنع "صبري" بوجوده في الإمارات، بينما لازال "صلاح" ينتظر جديدًا حول وضعه داخل عمله الحالي.